للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت، فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟» قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله! لا تطيقه أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟» قال: فدعا الله له فشفاه (١).

فهذا الرجل لما دعا بتعجيل العقوبة استجاب الله دعاءه، وابتلاه بالمرض حتى ضعف وصار مثل فرخ الطائر، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يطيق ماسأل في الدنيا، ولا يستطيعه في العقبى، ثم بين له الصواب من القول، فلو قال: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة ... )؛ لغفر الله له ذنوبه وعافاه من المرض، فدعا الرجل بهذا الدعاء الجامع فشفاه الله (٢).

وكان هذا الدعاء المبارك أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أنس رضي الله عنه يدعو به لأصحابه، وما ذك إلا لأنه "جامع لجميع مطالب الدّنيا والآخرة" (٣)، فحري بالمسلم أن يكون له منه أوفر النصيب.

١٦ - التحصن بسؤال العفو والعافية.

ففي العفو محو الذنوب، وفي العافية السلامة من الأسقام والبلايا (٤).

قال أنس رضي الله عنه: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، أي الدعاء أفضل؟ قال: «سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة»، ثم أتاه الغد فقال: يا نبي الله، أي الدعاء أفضل؟ قال: «سل العفو والعافية في الدنيا والآخرة، فإذا أعطيت العافية في الدنيا والآخرة فقد أفلحت» (٥).

وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على المبتلين الذين لا يسألون الله العافية، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم مبتلين، فقال: «أما كان هؤلاء يسألون العافية؟!» (٦).

قال ابن حجر الهيتمي:"ويتأكد لمن أصابه طاعون أو مرض وغيره أن يديم سؤال العافية" (٧)؛ فإذا ما استجاب الرب تعالى كانت الصحة والسلامة.

وقد قام صلى الله عليه وسلم على المنبر يوما ثم بكى، فقال: «سلوا الله العفو والعافية؛ فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية» (٨).

قال الحكيم:"هذا من جوامع الكلم، إذ ليس شيء مما يعمل للآخرة يتقبل إلا باليقين، وليس شيء من أمر الدنيا يهنأ به صاحبه إلا مع الأمن والصحة وفراغ القلب، فجمع أمر الآخرة كله في كلمة، وأمر الدنيا كله في كلمة" (٩).

وصح إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع تلكم الدعوات حين يمسي وحين يصبح.

١٧ - التحصن بالله من تحول العافية.

فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من تحول العافية وتبدلها بالبلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك» (١٠).

قال الصنعاني:"تحول العافية: انتقالها، ولا يكون إلا بحصول ضدها وهو المرض" (١١)، فكأن المتعوذ سأل دوام العافية، وهي: السلامة من الآلام والأسقام (١٢).


(١) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (٢٦٨٨).
(٢) انظر: مشكاة المصابيح (٨/ ٦١٣).
(٣) اللباب في علوم الكتاب (٣/ ٤٤٣).
(٤) انظر: فيض القدير (٢/ ٣٢).
(٥) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (٤٣٦)، وصححه الألباني (٤٩٥).
(٦) أخرجه البزار (٣١٣٤) وصحح إسناده الألباني في الصحيحة (٢١٩٧).
(٧) الفتاوى الكبرى الفقهية (٤/ ٢٨).
(٨) أخرجه الترمذي في فضل التسبيح (٣٥٥٨)، والنسائي في الكبرى (١٠٧١٧)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (٥٩٤٥).
(٩) فيض القدير (٤/ ١٠٦).
(١٠) أخرجه مسلم في الذكر (٢٧٣٩).
(١١) سبل السلام (٧/ ٢٨١).
(١٢) فيض القدير (٢/ ١١٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>