للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنكار عطاء صنيع ابن هشام قد يفهم منه بادي الرأي خلاف ما روي من منع عمر رضي الله عنه الرجال من الاختلاط بالنساء في الطواف، ومثله ما جرى في عهد خالد بن عبد الله القسري وليس كذلك، فقد وقع في الحديث إثبات عطاء أنهن لم يكن يخالطن الرجال، فإن لم تكن الخلطة المريبة موجودة لكون المرأة تطوف حجرة ناحية (بعيدة) عن الرجال زال الإشكال وارتفعت المحظور، ثم إن قول عطاء نفسه في هذا الأثر: "وكن يخرجن متنكرات بالليل، فيطفن مع الرجال ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال"، هذه الرواية تدل على إخراج الرجال ليلاً، والرواية في مصنف عبد الرزاق قال: "ولكنهن إذا دخلن البيت سترن حين يدخلن، ثم أخرج عنه الرجال" (١)، وقد ثبتت من طريق عبد الرزاق، وطريق البيهقي والفاكهي وغيرهم، ومقتضى هذا يحتمل أن عمر إنما أمر بإخراج الرجال ليلاً، أو حد للرجال حداً لايتجاوزونه حال وجود النساء، كالذي كانت تطوف فيه عائشة رضي الله عنها حَجِرة، وليس أحد من هذه الوجوه في الجمع موقوفاً على تصحيح الرواية في منع عمر للخلطة، بل رواية الصحيح وعبد الرزاق والبيهقي وغيرهما الآنفة تشعر بهذا المعنى، قال ابن حجر: "قوله: حين يدخلن في رواية الكُشْميهَنِيِّ حتى يدخلن وكذا هو للفاكهي، والمعنى إذا أردن دخول البيت وقفن حتى يدخلن حال كون الرجال مخرجين منه" (٢).

قال ابن حجر معلقاً على أثر منع عمر: "وهذا إن صح لم يعارض الأول لأن ابن هشام منعهن أن يطفن حين يطوف الرجال مطلقاً فلهذا أنكر عليه عطاء" (٣).

فظاهر قول عطاء رحمه الله إنكار تحكم ابن هشام دون مقتضي في ذلك العهد، مع إمكان الطواف بغير خلطة من وراء الرجال.

والمحصلة أن قصد منع الخلطة المحرمة ثابت في حديث البخاري هذا وفي ما روي من صنيع المتقدمين من الخلفاء الراشدين المهديين ومن أتى بعدهم، تصوبه عموم نصوص الشريعة القاضية بمنع أسباب الفتنة وتزاحم الرجال والنساء، وإنما ينكر التعنت إذا لم تكن الخلطة المذمومة حاصلة، ولم يكن ثمة مقتض للإلزام بما لم يلزم به الشرع.

على أن مجرد إنكار عطاء رحمه الله ليس حجةً على غيره حتى يستمسك بها في مخالفة مقتضى النصوص.

وفيما نقله عن عائشة رضي الله عنها من ترك الاستلام الذي ندب إليه اجتناباً للخلطة ونفيها عنها بذكره طوافها ناحية كل ذلك دليل على أنه لاتسوِّغ تلك العبادة اختلاط النساء بالرجال.

مراعاة فقهاء الإسلام على اختلاف مذاهبهم منع الخلطة ما أمكن في المناسك:

ولعل هذا يبدو جلياً لمن أنار الله بصيرته في المسألة، ونظر في تشريع المناسك بإنصاف، وتأملَ ما وُضع من ضوابط لأجل صيانة النساء القاصدات لهذه العبادة، صيانة تحفظ معها كرامتهن، وتمنع من اختلاطهن بالرجال على الوجه المفضي للمفسدة بقدر الإمكان، ومن ذلك أن الشارع لم يوجب على المرأة حجاً أو عمرة إلاّ إذا كان معها محرم، ومن أباح لها السفر من الفقهاء مع رفقة من النساء مأمونةٍ قال: "لتستأنس بهنَّ ولاتحتاج إلى مخالطة الرجال" (٤)، وكره مالك أن تركب البحر ولو للحج لأنه مظنة خلطة، وفرق فقهاء المالكية بين ما إذا كان في السفينة مكان تستغني به عن مخالطة الرجال فجوزوا هذا ومنعوا إذا لم يكن (٥).


(١) المصنف ٥/ ٦٧ (٩٠١٨)، تنظر في سنن البيهقي ٥/ ٧٨ (٩٠٣٠).
(٢) الفتح ٣/ ٤٨١.
(٣) الفتح ٣/ ٤٨١.
(٤) انظر المبسوط للسرخسي ٤/ ١١١.
(٥) التاج والإكليل لمختصر خليل ٣/ ٤٨٥، وكذلك مواهب الجليل ٣/ ٥٢٠، وكان ساحة بعض السفن كانت عندهم كالمجس الواحد.

<<  <  ج: ص:  >  >>