للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنَّ هذه الفلسفة النسبية منتشرةٌ في الثقافةِ الليبرالية بشكلٍ عام، وفي الفكرِ الغربي المعَاصر تحديداً، وهي تظهر في رفضِ الإله، ورد الثوابت والأنظمة والقوانين، وإنكار الحقيقة المطلقة. وقد أدَّت هذه الفلسفةُ إلى انتشار الأمراض المعرفية، والأخلاقية، والسلوكية وغيرها.

فمبدأ: (كلُّ فرد على حق) أو (لا توجد حقيقة مطلقة) أو (هذا حق عندك وليس عندي) وعبارات أخرى غير منطقية تحمل ذات المعنى؛ المقصود منها تسويغُ أعمال الشر وإعطائها نوعاً من القبول الذاتي والاجتماعي، بدعوى الحرية التي يقوم عليها منهج الليبرالية.

ويمكن أن نتساءل: لماذا اكتسبت النسبيةُ مكانةً رفيعةً لدى بعض أربابَ المجتمع الحديث؟

إذا نظرنا إلى الوَاقع وجدنا أن هناك بعض العَوامل التي ساهمت في قبول النسبيةِ وانتشارها، ومنها:

١. النجاحُ العملي الذي زاد في اعتقاد فكرة أن الإجابات الحقيقية توجد في العِلم. لذا يعتقد البعض من الناس أن ما يقوله العلماء - مهما يكن ذلك القول - هو صحيح. وإذا لم يستطع العلم أن يجد جواباً لشيء ما فإنه ببساطة ستُكتشف الحقيقةُ لاحقاً. فالناس يؤمنون بالعِلم والمطلق فقط فيما نعرفه الآن. والذي ربما يكون غير حقيقي لاحقاً. وهذا يُقَوِّض الحقيقةَ المطلقة.

٢. مع القَبول الواسع لنظريةِ التطور، فالإله أُزيح بعيداً خارجَ المنظومة الفكرية، وبدون اعتقادِ وجود الإله المقرِّر للحقيقة والباطل؛ فإن الإنسانَ سيكون بديلاً عن الإله ويقرر ما هو الحق وما هو الباطل.

٣. مواجهة الثقافات المتنوعة والمتفاوتة، فهذه المواجهة تجعلنا أكثرُ انسجاماً وقبولاً لفكرة وجود أكثر من طريقٍ لعمل شيء ما. والإيمانُ بتعدد الثقافات لا يشترط ببطلان هذه الفكرة لكنه يعمل على تقويض أو إنكار الحقيقة المطلقة.

٤. زيادةُ الفلاسفةُ النسبيين، وخصوصاً المنتمين إلى حركةِ العصر الجديد الذين يقولون: إنه لا يوجد حقيقَة مُطلقة، وأنَّ كل شيءٍ بإمكانه أن يخلق واقعه.

٥. التحرُّر من القِيَم الأخلاقية، والقيودِ الاجتماعية، فالنسبية تُقرر مذهبَ: دعه يعمل ما يشاء. (١).

«وقد وجدتُ شبهةَ (نسبية الحق) هذه مؤثرة حتى في بعض الشباب المتدينين. قال لي أحدهم: إذا كنا نحن نرى أنفسنا على حق فهم أيضاً يرون أنهم على حق. قلت له: وماذا في هذا؟ إن الحق واحد، سواء كان متعلقاً بدين أو بدنيا؛ لأنه وصف لواقع ولا يمكن أن يكون الواقع على صفتين متضادتين» (٢).

* خامساً / نقض القول بـ" نسبية الحقيقة ":

لا يمكن لأيِّ مجتمعٍ أن يعيشَ بلا حقائقَ مطلقة مشتركة بين أفراده، فبدون الحقيقةِ المُطلقة سيُنشأ الصِّراع، ويتولَّد النزاع، وتتَصادمُ الآراء، ويحدثُ الشَّرخ الاجتماعي، والتمزق الثقافي، وبالتالي سقوط المجتمع أو ضعفه على أقل الأحوال.

إن من الأمور الطبيعية حدوثُ اختلافٍ في تقييم الأمور وكيفيةِ التعامل معها، ولكن يظل هذا الاختلاف والتفاوت تحتَ مظلةٍ عامة متفق عليها، «فقد يختلف الآباء في تربية أبنائهم ولكنهم في الغالب يتجهون إلى نفس الهدف. فالحقيقة العامة متفق عليها ولكن الأساليب في التعامل مع هذه الحقيقة قد يختلف.

إن الحقائق المطلقة كثيرة جداً لا يستطيع العقل أن يردها وهي تشهد على زيف النسبية فمن ذلك أن الإنسان لا يوجد نفسه من العدم فهذه حقيقة مطلقة» (٣).


(١) مقال: نقض المذهب النسبي، مبارك عامر بقنة، بتصرف.
(٢) مقال بعنوان: (الحوار .. مجادلة جادة لا مداهنة) أ. د. جعفر شيخ إدريس، مجلة البيان العدد ١٩٠ جمادى الآخرة ١٤٢٤هـ.
(٣) المصدر السابق.

<<  <  ج: ص:  >  >>