للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن «هذه المقولات التي تقرّر بأنه لا أحد يحتكر الحقيقة ليست صواباً بإطلاق، ولا خطأً بإطلاق، بل فيها نسبة من الخطأ وأخرى من الصواب، إلا أن نسبةَ الخطأ فيها كافيةٌ لنقض أصل الإيمان؛ لأن أصول الإيمان مبنية على القطعية واليقين، فأنت إن لم تقطع يقيناً بصحة توحيدك لله فلست بمؤمن في شريعة الله، وأنت إن لم توقن يقيناً لا ظن فيه فضلاً عن الشك بأن الله فرد صمدٌ لا شريك له في ملكه وخلقه فلست بمؤمن في دين الله، وإن أنت لم توقن يقيناً لا تردد فيه بأن القرآن معصوم من التحريف والتبديل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل، وأن الوحي قد انقطع بموته فلست بمؤمن في دين الله، وقلْ مثل ذلك فيما سوى هذا وذاك من أصول الدين وقطعياته» (١).

وإن القول بـ" نسبية الحقيقة " «يفضي إلى المساواة بين قطعيات الشريعة وظنياتها، ومن ثَمَّ تصبح أركان الإيمان مما يسع فيه الخلاف، فتخرج بذلك عن دائرة الثوابت القطعية، كما أن في العمل بإطلاقها منافاةً لمقتضى الإيمان؛ إذ مقتضاه التصديقُ التامُ، واليقينُ المطلق بأركان الإيمان وأصول العقيدة، وآيات القرآن تغذي في أهله الشعورَ بامتلاكهم للحقيقة المطلقة، وأنهم على الحق المبين إلى درجة اليقين، وأن غيرهم مبطلون يتبعون باطلاً؛ كقوله: " فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ " [النمل: ٧٩]، " وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ " [فاطر: ٣١]، وقوله تعالى: " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " [آل عمران: ٨٥]، ولا يجوز لمثلِ هذه العقيدة المبنيَّة على اليقين المُطلق أن تخضع للمساوماتِ والمداهنات؛ فمجرد الشك بأنها هي الحق، أو أن غيرَها من ملل الكفر قد يكون هو الحق، أو هو حق مثلها؛ لهو خطرٌ يزلزل الإيمان من أصوله، " فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ " [يونس:٩٤]» (٢).

قال الإمام الشاطبي - رحمه الله - في موافقاته: «الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك. ولا يصلح فيها غير ذلك» (٣).

وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: «الدليل أن الحق في جهة واحدة: الكتاب والسنّة والإجماع» (٤).

وقد ذكر الإجماع على ذلك العلامة الشوكاني رحمه الله في كتابه إرشاد الفحول (٥).

ولو لم يكن ثمةَ حقيقة مطلقة يمتلكها أحدٌ فيحتكر فيها الصواب؛ لكان أمرُ اللهِ بلزوم الحقِّ واتِّباعه عبثاً لا معنى له؛ لأنه على ضَوءِ هذا المبدأ حقٌ لا وجود له إلا في الذِّهن، وأما في الواقع فهو نسبيٌ يصح أن يكون حقاً في عقلٍ، باطلاً في عقل آخر!، والله تعالى يقول: " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [الأنعام: ١٥٣] ولنتساءلْ: أين هذا الصراطُ المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه إذا كانت الحقيقة نسبية؟!، وأين هي تلك السبل الضالة التي حذرنا من اتباعها إذا كانت الحالة كذلك؟!.


(١) انظر مقال على الشبكة بعنوان: (الحقيقة المطلقة)، سعود بن محمد الشويش.
(٢) مقال: (الحقيقة النسبية .. أفيون العقيدة!)، سامي الماجد.
(٣) الموافقات (٥/ ٥٩).
(٤) روضة الناظر (٣/ ٩٨٢).
(٥) إرشاد الفحول، ص ٥٩١، بواسطة: بحث (التعددية الفكرية عند محمد المحمود).

<<  <  ج: ص:  >  >>