للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: " فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " [البقرة: ٢١٣]، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «قال الربيع بن أنس: " فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ " أي: عند الاختلاف، أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل عند الاختلاف» (١).

ثم إنه لو كانت الحقائقُ كلُّها نسبيةً، ليس فيها شيءٌ مطلقٌ لا يصح لأحدٍ أن يحتكر الصواب فيها؛ لما جاز أن يُهلِك اللهُ سبحانه الأممَ السابقة على تكذيب رُسلها؛ ولو كانت الحقائق كلها نسبيةً ليس فيها قطعيٌ يقينيٌ لما جاهد النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكفارَ على أصول الإيمان، ولعذرهم على مخالفتهم.

«ألم يأمر الله موسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام أن يأخذا الكتاب بقوة، والذي لا يتحقق إلا بالتصديق اليقيني والإيمان القطعي بما فيه من الأحكام القطعية: " وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ " [الأعراف: ١٤٥]، " يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ " [مريم: ١٢]» (٢).

وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر)) قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله - مبيناً هذا الحديث: «إن المجتهد يكلف إصابة الحكم، وإنما لكل مسألة حكم معين يعلمه الله، كلف بالمجتهد طلبه، فإن اجتهد فأصابه كان له أجران وإن أخطأه فله أجر على اجتهاده، وهو مخطئ، وإثم الخطأ محطوطٌ عنه» (٣).

وقد بيَّن شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن الحقَّ في حقيقةِ الحال واحدٌ لا يتعدد، ولكن لذلك تفصيل، ملخصه: أن المجتهد في الأمور الاجتهادية الظنّية إن أخطأ حكم الله فهو مصيب من جهة ومخطئ من جهة أخرى، وله أجرٌ على اجتهاده كما نص عليه الحديث. فهو مصيب باجتهاده وبذله الوسع في الوصول للحكم الشرعي؛ وذلك لكونه بذل ما أمر الله به، فالحكم الذي وصل إليه باجتهاده وجب عليه فعله شرعاً، ولا يأثم بعدم موافقة حكم الله وذلك لاجتهاده، وإن كان هو في نفس الأمر مخطئ في إصابة حكم الله الذي يعلمه الله، والذي هو واحد في قول المجتهدين لا يتعدد. ومتى علم وتبين له من الشرع ما ينقض اجتهاده أثم بالإعراض عنه وعدم العمل به (٤).

لذلك لابد من تخصيص عموم هذا المبدأ (نسبية الحقيقة) بأن يُستثنى من عمومه أصولُ الدين، وقطعياتُ الشريعة، وهي: كل ما جاء في الكتاب والسنة قطعيَ الثبوت قطعيَ الدلالة، مما لا يحتمل تأويلاً.

وتبقى المقولة بعد ذلك صحيحةً في ظنيَّات الشريعة مما يحتمل التأويل ويَسُوغ فيه الاجتهاد واختلف فيه العلماء، وهذه هي التي عناها الإمامُ الشافعي - رحمه الله - بقوله: " قولي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقولُ غيري خطأٌ يحتمل الصواب ".

ومثل هذه الأمور الظنية لا تحتمل القطعية في التصويب والتخطئة، ولا يجوز أن يكفّر فيها المخالف، ولا أن يتهم بسببها في ديانته وأمانته، ولا يجوز أن يُستحل فيها عرضه، أو يُنتقصَ من كرامته وحقوقِه، فضلاً عن استحلال دمه.

وقد خالف بعضهم قولَ سلفِ الأمة فقالوا: إن الحق يتعدد، وهو تابع لاجتهاد المجتهد، فما أدَّى إليه اجتهادُه فهو الحقُّ في الأصول والفروع، وبعضُهم حَصَر تعدد الحق في الفروع دون الأصول.


(١) تفسير ابن كثير (١/ ٢٤٨).
(٢) مقال: (الحقيقة المطلقة) للشويش.
(٣) روضة الناظر (٣/ ٩٨٦).
(٤) مجموع الفتاوى (٢٠/ ٢٠ - ٣٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>