للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا القول نقضه أئمةُ الدين، وأعلام الملّة، وعلماء الشريعة، وردوه بالنصوص الشرعية، قال العلامة الشوكاني - رحمه الله -: «من قال إن كل مجتهد مصيب، وجعل الحق متعدداً بتعدد المجتهدين، فقد أخطأ خطأً بيناً، وخالف الصواب مخالفة ظاهرةً» (١).

وقال أيضاً - رحمه الله -: «وما أشنع ما قاله هؤلاء الجاعلون حكم الله متعدداً بتعدد المجتهدين، تابعاً لما يصدر عنهم من اجتهاد، فإن هذه المقالة مع كونها مخالفة للأدب مع الله عزّ وجلّ ومع شريعته المطهّرة؛ هي أيضاً صادرةٌ عن محض الرأي الذي لم يشهد له دليل، ولا عضدته شبهةٌ تقبلها العقول، وهي أيضاً مخالفة لإجماع الأمة، سلفها وخلفها» (٢).

وقد ساق الشوكاني - رحمه الله - كلاماً للقاضي يردُّ فيه على مقالةٍ للعنبري والجاحظ، حيث نُقل عنهما القولُ بتعدد الحقِّ في الأصول والفروع: «إن أردتما بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد؛ فقد خرجتما من حيّز العقلاء، وانخرطتما في سلك الأنعام، وإن أردتم الخروج من عهدة التكليف ونفي الحرج - كما نُقل عن الجاحظ - فالبراهين العقلية من الكتاب والسنّة والإجماع الخارجة عن حدِّ الحصر ترد هذه المقالة» (٣).

وقال ابن قدامة - رحمه الله - راداً على ما ساقه الغزالي في المستصفى من قولِ الجاحظ برفع الإثم عمَّن اجتهد فأخطأ في الأصول: «أما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا، وكفر بالله تعالى» (٤).

وهذا القول - أي القول بتعدد الحق - قولُ كثيرٍ من أهل الكلام وأهل البدع، وبهذا نعلم أن الحقَّ واحدٌ لا يتعدد في الأصول والفروع على ما سبق ذكره.

إذاً فإنَّ التسليم بمبدأ (نسبية الحقيقة)، وأن الحقيقةَ المطلقة لا يملكها أحدٌ، وأن الحقائق التي يؤمن بها البشر نسبيةٌ محتملةٌ للخطأ كاحتمالها للصواب على سواء، لهو تسليم يناقض أصول الدين الحنيف، وقواعد الشرع المطهر، وأدلة الوحي الكريم.

وبالنظر إلى مبدأ " نسبية الحقيقة " في الفكر الليبرالي نجده يَغرق في تناقضاتٍ عديدة، منها:

١. إذا كانت الحقيقةُ نسبيةٌّ؛ فإن عبارة "كل حقيقة نسبية" تعتبر عبارة مطلقة، والنسبيةُ ترفض المطلق، فالعبارة متناقضة في ذاتها، وعليه فإن مبدأ "كل حقيقة نسبية" باطل.

وكذا فإن القول بـ"نسبية الحقيقة" يرفضه الواقع، فهناك حقائق كثيرة مطلقة لا تحمل النسبية اتفاقاً، فالشمس محرقة، والسماء فوقنا، والإنسان ناطق نامي وغير ذلك من الحقائق التي يصعب حصرها.

٢. أن ما كان حقاً لديك ليس حقاً لدي: فالحق لدي أن النسبية باطلة، فإذا قلت لي: لا، هذا ليس صحيحاً. فهذا يلغي المبدأ الذي قررتْه النسبية، وعليه فإن النسبية باطلة.

وإذا قلتَ: نعم. وأقررت بقولي، فالنسبية باطلة.

وإذا قلتَ: إن ذلك حقاً عندي فقط أن النسبية باطلة، فإن هذا يعني أنني أعتقد ببطلان النسبية، وإذا كان اعتقادي صحيحاً، فكيف يمكن أن تكون النسبية صحيحة.

٣. أنه ما مِن أحد يستطيع أن يعرف أي شيء من غير شك: فإذا كان هذا صحيحاً، فإننا نعرف أننا لا نستطيع أن نعرف أي شيء من غير شك، فبالتالي معرفتنا هنا مطلقة وهذا دحض ذاتي.

٤. النسبية لا تقدر على إنكار ما يتناقض مع الحقيقة ذاتها. فالنسبية تحمل التناقض الذاتي، فالكل لديه الحقيقة فلا ينبغي أن يكون هناك إقناع الآخرين بما تحمله أنت من أفكار ومعتقدات فما تراه حقيقة لا يحق لك أن تقنعهم حتى يروا أن ما لديك هو الحقيقة. (٥)


(١) إرشاد الفحول، ص٥٩٠، بواسطة: بحث (التعددية الفكرية عند محمد المحمود).
(٢) المرجع السابق، ص٥٩١.
(٣) المرجع السابق، ص٥٨٦.
(٤) روضة الناظر (٣/ ٩٨٠).
(٥) بتصرف من: مقال (نقض المذهب النسبي)، مبارك عامر بقنة.

<<  <  ج: ص:  >  >>