صَارَ مَعَهُ كَأَنَّهُ الْجِنْسُ كُلُّهُ، وَنَحْنُ لَمْ نَدَّعِ إفَادَةَ اللَّامِ الْمَذْكُورَةِ لِلْحَصْرِ إفَادَتَهَا لَهُ حَقِيقَةً مُطْلَقًا فِي كُلِّ مَوْرِدٍ بَلْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ التَّفْصِيلِيِّ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَصِحُّ أَيْضًا الْقَوْلُ بِالْحَصْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّامَ لِلْحَقِيقَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَعَدَمُ صِحَّةِ نَفْيِ كَوْنِ اللَّامِ فِي مِثْلِ: الْعَالِمُ زَيْدٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ لِعَدَمِ صِحَّةِ كُلُّ عَالِمٍ زَيْدٌ، وَإِنَّ قَوْلَ الْمَانِعِ لِإِفَادَتِهِ الْحَصْرَ إنَّمَا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ بِمَعْنَى أَنَّ زَيْدًا هُوَ الْكَامِلُ وَالْمُنْتَهِي فِي الْعِلْمِ كَمَا نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ اللَّامَ فِي الرَّجُلِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَمَعْنَاهُ الْكَامِلُ فِي الرُّجُولِيَّةِ يُفِيدُ كَوْنَ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي مِثْلِهِ لَفْظِيًّا، وَأَنَّ قَوْلَ الْمَانِعِ أَيْضًا لَوْ أَفَادَ الْعَالِمُ زَيْدٌ الْحَصْرَ لَأَفَادَ عَكْسُهُ أَيْضًا صَحِيحٌ مُلْتَزَمٌ.
وَمَنْعُ صِحَّةِ اللَّازِمِ مَمْنُوعٌ، وَدَعْوَى مَنْعِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ بَلْ إنَّمَا التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُعَرَّفَ إنْ جُعِلَ مُبْتَدَأً فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْخَبَرِ وَإِنْ جُعِلَ خَبَرًا فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمُبْتَدَأِ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، وَأَشَرْنَا إلَيْهِ آنِفًا ثُمَّ مِمَّنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا كَيْفَمَا دَارَ يُفِيدُ الِانْحِصَارَ السَّكَّاكِيُّ وَالطِّيبِيُّ (وَتَكَرَّرَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مِثْلُهُ) أَيْ هَذَا الْقَوْلِ (فِي نَفْيِ الْيَمِينِ عَنْ الْمُدَّعَى بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ) فَفِي الْهِدَايَةِ جَعْلُ جِنْسِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ، وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ وَفِي الِاخْتِيَارِ جَعْلُ جِنْسِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَذَلِكَ يَنْفِي رَدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِي (وَغَيْرِهِ) أَيْ: وَفِي غَيْرِ نَفْيِ الْيَمِينِ عَنْ الْمُدَّعِي، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يَقُودُ إلَيْهِ كَلَامُهُمْ فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ لِكَوْنِ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ الشَّرْعِيِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا» عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ فَبَطَلَ عَدُّ كَوْنِ الْحَصْرِ فِي مِثْلِ الْعَالِمُ زَيْدٌ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ.
وَنَفْيُ قَوْلِ مَشَايِخِنَا بِهِ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدِيعِ هَذَا، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَحَاصِلُ مَا أَرَادَهُ أَنَّهُ خَالَفَ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ فِي طَرِيقِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْمُعَرَّفِ فَيُفِيدُ الْحَصْرَ وَتَأْخِيرِهِ فَلَا يُفِيدُهُ كَزَيْدٌ الْعَالِمُ وَحَكَمَ بِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي إفَادَةِ الْحَصْرِ بِنَاءً عَلَى نِسْبَةِ الْحَصْرِ لِلضَّرُورَةِ بِسَبَبِ الْعُمُومِ كَمَا فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ فَإِذَا كَانَ كُلُّ يَمِينٍ عَلَى الْمُنْكِرِ لَزِمَ أَنْ لَا يَبْقَى يَمِينٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا الْمُوجِبُ لَا يَخْتَلِفُ بِتَقْدِيمِ مَعْرُوضِهِ وَتَأْخِيرِهِ ثُمَّ هَذَا الْمُوجِبُ، وَهُوَ الْعُمُومُ مُنْتَفٍ فِي صَدِيقِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا ذَاتٌ مُتَّصِفَةٌ بِصَدَاقَتِي فَلَا عُمُومَ فِيهِ نَفْسِهِ فَلَزِمَ أَنْ لَا حَصْرَ إذَا تَأَخَّرَ فَفَارَقَ ذَا اللَّامِ حَيْثُ جَعَلَهُ فِي التَّأْخِيرِ يُفِيدُهُ وَسَكَتَ عَنْ تَقَدُّمِهِ، وَمَفْهُومُ شَرْطِهِ يُفِيدُ أَنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ حِينَئِذٍ، وَإِذْ بَيَّنَ أَنْ لَا عُمُومَ فِيهِ كَإِنْ حَصَرَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ أَلْبَتَّةَ وَهِيَ عِنْدَهُ التَّقْدِيمُ فَإِنَّهُ يُفِيدُهُ كَمَا فِي {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] لِأَنَّ صَدِيقِي مَوْضِعُهُ التَّأْخِيرُ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ زَيْدِ فَإِذَا قُدِّمَ كَانَ الْحَصْرُ فَائِدَةَ التَّقْدِيمِ اهـ.
قُلْت: وَهُوَ حَسَنٌ إلَّا إنْ جُعِلَ صَدِيقِي زَيْدٌ مُفِيدًا لِلْحَصْرِ بِمَا ذَكَرَهُ إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ فِي مِثْلِهِ أَنَّ الِاسْمَ مُتَعَيِّنٌ لِلِابْتِدَاءِ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الذَّاتِ، وَالصِّفَةُ مُتَعَيِّنَةٌ لِلْخَبَرِ تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَمْرٍ نِسْبِيٍّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُبْتَدَأِ الْمَنْسُوبُ إلَيْهِ، وَمَعْنَى الْخَبَرِ الْمَنْسُوبُ وَالذَّاتُ هِيَ الْمَنْسُوبُ إلَيْهَا، وَالصِّفَةُ هِيَ الْمَنْسُوبُ فَسَوَاءٌ قِيلَ: زَيْدٌ صَدِيقِي أَوْ صَدِيقِي زَيْدٌ يَكُونُ زَيْدٌ مُبْتَدَأً وَصَدِيقِي خَبَرًا لَكِنْ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُبْتَدَأَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمُقَدَّمُ كَائِنًا مَا كَانَ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ مُعَرِّفَةً لِكَوْنِ الْخَبَرِ الْمُقَدَّمِ
وَأَجَابُوا: بِأَنَّا لَا نَجْعَلُ اسْمَ الصِّفَةِ مُبْتَدَأً إلَّا حَالَ كَوْنِهِ مُرَادًا بِهِ الذَّاتُ الَّذِي لَهُ تِلْكَ الصِّفَةُ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الذَّاتَ وُصِفَتْ بِانْتِسَابِ أَمْرٍ نِسْبِيٍّ إلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ تَعَيُّنَهُ لِيَكُونَ مُسْنَدًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَلَا نَجْعَلُ اسْمَ الذَّاتِ كَزَيْدٍ خَبَرًا إلَّا حَالَ كَوْنِهِ مُرَادًا بِهِ مَفْهُومٌ مُسَمًّى بِزَيْدٍ فَيَكُونُ الْوَصْفُ مُسْنَدًا إلَى الذَّاتِ دُونَ الْعَكْسِ وَمِنْ ثَمَّةَ عُلِّقَ الظَّرْفُ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأنعام: ٣] أَيْ الْمَعْبُودُ فِيهَا أَوْ الْمَعْرُوفُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ
وَقَوْلُهُ (وَالتَّشْكِيكُ بِتَجْوِيزِ كَوْنِهِ) أَيْ الْمَحْصُورِ بِاللَّامِ (لِوَاحِدٍ وَلِآخَرَ غَيْرُ مَقْبُولٍ) رَدٌّ لِمَا فِي شَرْحِ الشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ لِلْبَدِيعِ مِنْ أَنَّ الْوَجْهَ فِي أَنَّ " الْعَالِمُ زَيْدٌ " يُفِيدُ الْحَصْرَ دُونَ " زَيْدٌ الْعَالِمُ " بَعْدَ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّامَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute