الْحَاضِرَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي الذِّهْنِ، وَإِنْ تَرَكَّبَتْ مِنْ مَفَاهِيمَ كُلِّيَّةٍ فَمُسَمَّاهُ حِينَئِذٍ إمَّا مَجْمُوعُ أُمُورٍ مُحَقَّقَةٍ خَاصَّةٍ هِيَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ مَجْمُوعُ عَيْنِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ هُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلَّقًا لِإِدْرَاكِ زَيْدٍ، وَعَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مُدْرِكًا لَهُمْ.
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ وُقُوعَ هَذَا لَهُ لَا يَقْتَضِي تَعَدُّدًا لَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَلْ هُوَ حَالَةُ تَعَلُّقِ إدْرَاكِ زَيْدٍ بِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ حَالَةَ تَعَلُّقِ إدْرَاكِ عَمْرٍو بِهِ وَهَلُمَّ جَرَّا كَمَا أَنَّ تَصَوُّرَاتِ مُتَصَوِّرِينَ لِزَيْدٍ عَلَمًا وَتَصْدِيقَاتِهِمْ بِأَحْوَالِهِ لَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَهُ بَلْ هُوَ هُوَ، سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِهِ تَصَوُّرَاتُهُمْ وَتَصْدِيقَاتُهُمْ بِأَحْوَالِهِ أَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ فَإِنْ قُلْت لَا بَأْسَ بِهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الِاسْمُ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْمُدْرَكَاتِ لِصِحَّةِ تَعَلُّقِ الْإِدْرَاكَاتِ بِهَا أَمَّا إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكَاتِ فَكَيْفَ يَسُوغُ ذَلِكَ إذْ يَصِيرُ الْإِدْرَاكُ مُتَعَلَّقَ الْإِدْرَاكِ قُلْت سَوَاغُهُ أَيْضًا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِدْرَاكِ الْمَذْكُورِ مُدْرَكًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ إدْرَاكًا أَيْضًا فَتَأَمَّلْهُ. ثُمَّ هَذَا جَارٍ فِي أَسْمَاءِ سَائِرِ الْعُلُومِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ تَعْرِيفُ مَفْهُومِ هَذَا الِاسْمِ مُخْتَلِفًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ اللَّفْظُ أَوَّلًا عَلَيْهِ وَبِاعْتِبَارِ مَا صَارَ ثَانِيًا إلَيْهِ، وَقَدْ أَفَادُوا تَعْرِيفَهُ عَلَى كِلَيْهِمَا وَافَقَهُمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ مُشِيرًا إلَى صَنِيعِهِمْ هَذَا تَمْهِيدًا لِإِفَادَتِهِ لِذَلِكَ فَقَالَ: (وَالْعَادَةُ تَعْرِيفُهُ مُضَافًا، وَعَلَمًا) أَيْ تَعْرِيفُ مَفْهُومِ اسْمِهِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُ اسْمِهِ مُرَكَّبًا إضَافِيًّا لَيْسَ بِعَلَمٍ أَوْ حَالَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ عَلَمًا عَلَى هَذَا الْعِلْمِ أَوْ حَالَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاعْتِبَارَيْنِ إنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ مُرَكَّبٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُ الْأَجْزَاءِ وَبِاعْتِبَارِ الْعَلَمِيَّةَ مُفْرَدٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُ الْأَجْزَاءِ، ثُمَّ بَدَأَ بِتَعْرِيفِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ ذَاكِرًا مَعْنَى كُلٍّ مِنْ جُزْأَيْهِ مِنْ حَيْثُ تَصِحُّ الْإِضَافَةُ بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ السَّبِيلُ فِي مِثْلِهِ مُرَاعَاةً لِلتَّقَدُّمِ الْوُجُودِيِّ فَقَالَ: (فَعَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ فَتَعْرِيفُ مَفْهُومِ اسْمِهِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الِاسْمِ مُرَكَّبًا إضَافِيًّا لَيْسَ بِعَلَمٍ أَنْ يُقَالَ (الْأُصُولُ الْأَدِلَّةُ) فَأَدَاةُ التَّعْرِيفِ فِي الْأُصُولِ لِلْعَهْدِ أَيْ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِنَا أُصُولُ الْفِقْهِ ثُمَّ هِيَ جَمْعُ أَصْلٍ، وَعَنْهُ لُغَةً عِبَارَاتٌ أَحْسَنُهَا مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ وَغَيْرُهُ. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ آنِفًا إلَيْهِ أَيْ مِنْ حَيْثُ يُبْتَنَى عَلَيْهِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ قَيْدَ الْحَيْثِيَّةِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَعْرِيفِ الْإِضَافِيَّاتِ إلَّا أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُحْذَفُ لِشُهْرَةِ أَمْرِهِ وَيُسْتَعْمَلُ اصْطِلَاحًا بِمَعَانٍ الْمُنَاسِبُ مِنْهَا هُنَا الدَّلِيلُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَنَذْكُرُ وَجْهَهُ قَرِيبًا، وَالْمُرَادُ بِالْأَدِلَّةِ الْأَدِلَّةُ الْكُلِّيَّةُ السَّمْعِيَّةُ الْآتِي بَيَانُهَا، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ لَفْظَ الْكُلِّيَّةِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ قَيْدَ الْحَيْثِيَّةِ مُرَادٌ مِنْهَا كَمَا ذَكَرْنَا حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ مِنْ حَيْثُ هِيَ أَدِلَّتُهُ، وَهَذَا أَيْضًا هُوَ الْعُذْرُ فِي تَرْكِ التَّقْيِيدِ لَفْظًا بِالسَّمْعِيَّةِ ثُمَّ الْمُعَيِّنُ أَيْضًا لِذَلِكَ كُلِّهِ إضَافَتُهَا إلَى الْفِقْهِ كَمَا سَيَتَّضِحُ وَجْهُهُ قَرِيبًا فَإِنَّ دَلَائِلَ الْفِقْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ.
ثُمَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ مَبْنَى الْفِقْهِ، وَمَرْجِعُهُ بَلْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ هُنَا بِمَعْنَى الدَّلِيلِ لَيْسَ مَنْقُولًا عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ السَّابِقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَاصَدَقَاتِهِ، غَايَتُهُ أَنَّ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى عَقْلِيٌّ يُعْلَمُ أَنَّ الِابْتِنَاءَ هُنَا عَقْلِيٌّ فَيَكُونُ أُصُولُ الْفِقْهِ مَا يُبْتَنَى هُوَ عَلَيْهِ وَيُسْتَنَدُ إلَيْهِ وَلَا مَعْنَى لِمُسْتَنِدِ الْعِلْمِ وَمُبْتَنَاهُ إلَّا دَلِيلَهُ، وَهُوَ حَسَنٌ نَعَمْ إذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْأُصُولِ مُرَادًا بِهِ هَذَا الْعِلْمَ الْخَاصَّ يَكُونُ عَلَمًا بِطَرِيقِ الْغَلَبَةِ مَنْقُولًا كَمَا حَقَقْنَاهُ سَالِفًا، وَإِنْ انْدَرَجَتْ حَقِيقَتُهُ فِي مُطْلَقِ مُسَمَّى الْأُصُولِ لُغَةً؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الِاسْمِ بِالْأَخَصِّ بَعْدَ كَوْنِهِ لِلْأَعَمِّ الصَّادِقِ عَلَيْهِ، وَعَلَى غَيْرِهِ نَقْلٌ بِلَا شَكٍّ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ فَلَا تَذْهَلَنَّ عَنْهُ.
(وَالْفِقْهُ التَّصْدِيقُ لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ) فَالتَّصْدِيقُ أَيْ الْإِدْرَاكُ الْقَطْعِيُّ سَوَاءٌ كَانَ ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا صَوَابًا أَوْ خَطَأً جِنْسٌ لِسَائِرِ الْإِدْرَاكَاتِ الْقَطْعِيَّةِ بِنَاءً عَلَى اشْتِهَارِ اخْتِصَاصِ التَّصْدِيقِ بِالْحُكْمِ الْقَطْعِيِّ كَمَا فِي تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ بِالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ سَيَقُولُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute