عَلَى {إِلا اللَّهُ} [آل عمران: ٧] كَمَا هُوَ مُخْتَارُهُمَا مُوَافَقَةً لِلسَّلَفِ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَعْلَمَهُ الرَّسُولُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادِ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: ٧] كَمَا هُوَ مُخْتَارُ الْخَلَفِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الرَّسُولُ مَخْصُوصًا بِعِلْمِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوَقْفِ عَلَى إلَّا اللَّهُ وَمَا يَعْلَمُ أَحَدٌ تَأْوِيلَهُ بِدُونِ تَعْلِيمِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: ٦٥] أَيْ لَا يَعْلَمُ بِدُونِ تَعْلِيمِ اللَّهِ إلَّا اللَّهُ فَيَكُونُ إلَّا حِينَئِذٍ بِمَعْنَى غَيْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَخْصُوصًا بِالتَّعْلِيمِ بِدُونِ إذْنٍ بِالْبَيَانِ لِغَيْرِهِ فَيَبْقَى غَيْرَ مَعْلُومٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي حَصْرَ الْعِلْمِ عَلَى اللَّهِ، وَإِذَا صَارَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَالِمًا بِالْمُتَشَابِهَاتِ النَّازِلَةِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالتَّعْلِيمِ لَا يَسْتَقِيمُ الْحَصْرُ وَكَانَ يُقَالُ: تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيمُ حَاصِلًا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَكُونُ الرَّسُولُ عَالِمًا بِالْمُتَشَابِهِ قَبْلَ نُزُولِهَا فَيَسْتَقِيمُ الْحَصْرُ بِقَوْلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَبِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى حَصْرِ الْعِلْمِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَى مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي ذُكِرَ أَلَا تَرَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ تُوجِبُ حَصْرَ عِلْمِ الْغَيْبِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى، ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَهُ غَيْرُ اللَّهِ بِتَعْلِيمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: ٢٦] {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: ٢٧] فَكَذَا هُنَا كَذَا فِي الْكَشْفِ وَلَا يَعْرَى عَنْ بَحْثٍ لِمَنْ تَحَقَّقَ ثُمَّ بَقِيَ مَنْ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ؟ فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ فَقَالَ مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ وَصَدَقَ لِسَانُهُ وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ وَمَنْ عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ فَذَلِكَ مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ»
(وَجَرَتْ عَادَةُ الشَّافِعِيَّةِ بِاتِّبَاعِ الْمُجْمَلِ بِخِلَافٍ فِي جُزْئِيَّاتٍ أَنَّهَا مِنْهُ فِي مَسَائِلَ الْأُولَى التَّحْرِيمُ الْمُضَافُ إلَى الْأَعْيَانِ) كَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: ٣] وَالتَّحْلِيلُ الْمُضَافُ إلَيْهَا نَحْوُ {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: ١] (عَنْ الْكَرْخِيِّ وَالْبَصْرِيِّ) أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (إجْمَالُهُ وَالْحَقُّ) كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ (ظُهُورُهُ) أَيْ أَنَّهُ ظَاهِرٌ (فِي مُعَيَّنٍ لَنَا الِاسْتِقْرَاءُ فِي مِثْلِهِ) مِنْ إضَافَةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إلَى الذَّوَاتِ تُفِيدُ عُرْفًا أَنَّ الْمُرَادَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنْهَا حَتَّى إنَّ الْمُرَادَ مِنْ إضَافَةِ التَّحْرِيمِ إلَيْهَا (إرَادَةُ مَنْعِ الْفِعْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الْأَعْيَانِ (حَتَّى كَانَ) الْمَنْعُ الْمَذْكُورُ (مُتَبَادِرًا) أَيْ سَابِقًا إلَى الْفَهْمِ عُرْفًا (مِنْ: حُرِّمَتْ الْحَرِيرُ وَالْخَمْرُ وَالْأُمَّهَاتُ) وَهُوَ اللُّبْسُ فِي الْحَرِيرِ وَالشُّرْبُ فِي الْخَمْرِ وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ فِي الْأُمَّهَاتِ وَالتَّبَادُرُ دَلِيلُ الظُّهُورِ (فَلَا إجْمَالَ قَالُوا لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ فِعْلٍ) يَتَعَلَّقُ بِهَا لِأَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ تَكْلِيفٌ هُوَ بِمَا هُوَ مَقْدُورُ الْعَبْدِ، وَمَقْدُورُهُ الْفِعْلُ لَا الْعَيْنُ فَإِنْ قُدِّرَ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا فَمُحَالٌ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا الِامْتِنَاعَ عَنْهَا مَعَ أَنَّ التَّقْدِيرَ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ مُنْدَفِعَةٌ بِالْبَعْضِ فَيُقَدِّرُ هُوَ لَا الْجَمِيعُ لِأَنَّ مَا يُقَدَّرُ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا (وَلَا مُعِينَ) لِلْبَعْضِ فَيَلْزَمُ الْإِجْمَالُ (قُلْنَا تَعَيَّنَ) الْبَعْضُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَيْنِ (بِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ سَبْقِهِ إلَى الْفَهْمِ عُرْفًا وَعَادَةً ثُمَّ هُنَا بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ حَقِيقِيٌّ أَوْ مَجَازِيٌّ فَإِنْ كَانَ ذَاكَ الْفِعْلُ حَرَامًا لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ مَنْشَأُ حُرْمَتِهِ عَيْنَ ذَلِكَ الْمَحَلِّ كَحُرْمَةِ أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لِنَفْسِ الْمَالِ بَلْ لِكَوْنِهِ مِلْكَ الْغَيْرِ فَالْأَكْلُ كُلُّ مُحَرَّمٍ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لَهُ حَلَالًا بِأَنْ يَأْكُلَهُ مَالِكُهُ أَوْ يُؤْكِلَهُ غَيْرَهُ فَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَجَازِيٌّ إمَّا مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ أَوْ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ
وَإِنْ كَانَ ذَاكَ الْفِعْلُ حَرَامًا لِعَيْنِهِ وَهُوَ مَا يَكُونُ مَنْشَأُ حُرْمَتِهِ عَيْنَ ذَلِكَ الْمَحَلِّ كَحُرْمَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ مَجَازٌ أَيْضًا كَالْأَوَّلِ وَقَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيَنْبَغِي كَوْنُهُ عَلَى قَوْلِهِمْ: مَجَازًا عَقْلِيًّا إذْ لَمْ يَتَجَوَّزْ فِي لَفْظِ حُرِّمَتْ وَلَا فِي لَفْظِ الْخَمْرِ اهـ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَجِيءُ مِثْلُهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَمَنْ وَافَقَهُ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فَالْمَحَلُّ أَصْلٌ، وَالْفِعْلُ تَبَعٌ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَحَلَّ أُخْرِجَ أَوَّلًا مِنْ قَبُولِ الْفِعْلِ وَمُنِعَ ثُمَّ صَارَ الْفِعْلُ مُخَرَّجًا وَمَمْنُوعًا مِنْ الِاعْتِبَارِ تَبَعًا فَحَسُنَ نِسْبَةُ الْحُرْمَةِ وَإِضَافَتُهَا إلَى الْمَحَلِّ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْفِعْلِ شَرْعًا حَتَّى كَأَنَّهُ الْحَرَامُ نَفْسُهُ وَيَطْرُقُهُ مَا تَقَدَّمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute