للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: ٧] وَالتَّأْوِيلِ، فَالْقِسْمُ الْمَحْكُومُ بِمُقَابَلَتِهِ بِنَفْيِ الْأَمْرَيْنِ) ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَالتَّأْوِيلِ جَمِيعًا لَا يَنْفِي أَحَدَهُمَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ ذَمُّ مَنْ اتَّبَعَهُ ابْتِغَاءَ التَّأْوِيلِ فَقَطْ (قُلْنَا قِسْمُ الزَّيْغِ بِابْتِغَاءِ كُلٍّ) مِنْ الْوَصْفَيْنِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ (لَا الْمَجْمُوعُ؛ إذْ الْأَصْلُ اسْتِقْلَالُ الْأَوْصَافِ) عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَمِّ مَنْ اتَّبَعَهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ فَقَطْ بِأَنْ يُجْرِيَهُ عَلَى الظَّاهِرِ بِلَا تَأْوِيلٍ فَكَذَا مَنْ اتَّبَعَهُ ابْتِغَاءَ التَّأْوِيلِ فَقَطْ (وَلِأَنَّ جُمْلَةَ يَقُولُونَ حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ يَكُونُ الرَّاسِخُونَ عَطْفًا عَلَى اللَّهِ لَا قَسِيمًا لِقَوْلِهِ {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: ٧] (حَالٌ) مِنْ الرَّاسِخُونَ (وَمَعْنَى مُتَعَلَّقِهَا) أَيْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ حِينَئِذٍ (يَنْبُو عَنْ مُوجِبِ عَطْفِ الْمُفْرَدِ لِأَنَّ مِثْلَهُ فِي عَادَةِ الِاسْتِعْمَالِ يُقَالُ لِلْعَجْزِ وَالتَّسْلِيمِ) وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُنَافِيهِ (وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ) فَيَقُولُونَ لِيُوَافِقَ قَسِيمَهُ فَحُذِفَتْ أَمَّا مِنْهُ لِدَلَالَةِ ذِكْرِهَا ثَمَّةَ عَلَيْهَا هُنَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَكَادُ تُوجَدُ مُفَصَّلَةً إلَّا وَتُثَنَّى أَوْ تُثَلَّثُ ثُمَّ حُذِفَتْ الْفَاءُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِهَا وَحِينَئِذٍ يُقَالُ.

(فَإِذَا ظَهَرَ الْمَعْنَى وَجَبَ كَوْنُهُ عَلَى مُقْتَضَى الْحَالِ الْمُخَالِفِ لِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ) كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبَلَاغَةِ (مَعَ أَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِلْعَامِلِ، وَلَيْسَ عِلْمُهُمْ) أَيْ الرَّاسِخُونَ بِتَأْوِيلِهِ (مُقَيَّدًا بِحَالِ قَوْلِهِمْ {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: ٧] عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُنَافِي كَوْنَ يَقُولُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً مِنْ الرَّاسِخِينَ ثُمَّ إيضَاحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآيَةَ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ وَالتَّقْسِيمِ، فَالْجَمْعُ قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران: ٧] وَالتَّقْسِيمُ قَوْلُهُ {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: ٧] وَالتَّفْرِيقُ قَوْلُهُ {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: ٧] فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِ قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران: ٧] قَسِيمًا لَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ فَأَمَّا الزَّائِغُونَ فَيَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ.

وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فَيَتَّبِعُونَ الْمُحْكَمَ وَيَرُدُّونَ الْمُتَشَابِهَ إلَى الْمُحْكَمِ إنْ قَدَّرُوا وَإِلَّا فَيَقُولُونَ كُلٌّ مِنْ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ جِيءَ بِقَوْلِهِ {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [البقرة: ٢٦٩] تَذْيِيلًا وَتَعْرِيضًا بِالزَّائِغِينَ وَمَدْحًا لِلرَّاسِخَيْنِ يَعْنِي مَنْ لَمْ يَذَّكَّرْ، وَلَمْ يَتَّعِظْ وَيَتَّبِعْ هَوَاهُ فَلَيْسَ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الرَّاسِخُونَ: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: ٨] وَمَا ذَكَرَ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا فِي حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ بِمَا يُعْرَفُ ثَمَّةَ لَا يَدْفَعُ ظُهُورَ هَذَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَحَاطَ عِلْمًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّوْجِيهِ مَعَ الْإِنْصَافِ (وَأَيَّدَ حَمْلَنَا قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْ تَأْوِيلُهُ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ) وَقِرَاءَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ آمَنَّا بِهِ كَمَا أَخْرَجَهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَعُزِيَتْ إلَى أُبَيِّ أَيْضًا.

(فَلَوْ لَمْ تَكُنْ) قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ (حُجَّةً) مُسْتَقِلَّةً (صَلَحَتْ مُؤَيِّدًا) لِمَا قَدَّمْنَاهُ (عَلَى وِزَانِ ضَعِيفِ الْحَدِيثِ) الَّذِي ضَعْفُهُ لَيْسَ بِسَبَبِ فِسْقِ رَاوِيهِ (يَصْلُحُ شَاهِدًا) لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ عَلَى وَفْقِهِ بِإِجْمَاعٍ ظَنِّيٍّ أَوْ قِيَاسٍ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُثْبِتًا) لِذَلِكَ الْحُكْمِ لَوْ انْفَرَدَ (فَكَيْفَ وَالْوَجْهُ مُنْتَهِضٌ عَلَى الْحُجِّيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى) أَيْ حُجِّيَّةِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ إذَا صَحَّتْ عَمَّنْ نُسِبَتْ إلَيْهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا مِثْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ إذْ لَا تَنْزِلُ عَنْ كَوْنِهَا خَبَرًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقْرَؤُهَا رِوَايَةً عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مَعْنَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ كَمَا سَيَأْتِي يَعْنِي فِي مَبَاحِثِ الْكِتَابِ وَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: ٧] إلَى قَوْلِهِ {أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: ٧] قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» وَمَا أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: ٧] انْتَهَى عِلْمُهُمْ إلَى أَنْ آمَنُوا بِمُتَشَابِهِهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا تَأْوِيلَهُ

هَذَا وَقَدْ أُورِدَ عَلَى اسْتِثْنَاءِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وُضُوحُ الْمُتَشَابِهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ غَيْرِهِ بِأَنَّهُ يَتَرَاءَى مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ إنْ وَجَبَ

<<  <  ج: ص:  >  >>