لِقَوْلِهِ تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ خِطَابِ مُوسَى لِهَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: ٩٣] أَيْ تَرَكْت مُقْتَضَاهُ (وَهُوَ) وَالْوَجْهُ وَكُلُّ عَاصٍ (مُتَوَعَّدٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: ٢٣] فَتَارِكُ الْأَمْرِ مُتَوَعَّدٌ وَهُوَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى مَنْعِ صُغْرَاهُ بِقَوْلِهِ (فَنَمْنَعُ كَوْنَهُ) أَيْ الْعَاصِي (تَارِكَ) الْأَمْرِ (الْمُجَرَّدِ) عَنْ الْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِلْوُجُوبِ لِصِدْقِهِ عَلَى مَا هُوَ لِلنَّدَبِ وَلَيْسَ تَارِكُهُ بِعَاصٍ اتِّفَاقًا (بَلْ) الْعَاصِي (تَارِكُ مَا) هُوَ مُحْتَفٌّ مِنْ الْأَوَامِرِ (بِقَرِينَةِ الْوُجُوبِ فَإِذَا اسْتَدَلَّ) لِكَوْنِ تَارِكِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِلْوُجُوبِ عَاصِيًا (بِ {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: ٩٣] أَيْ: اُخْلُفْنِي مَنَعْنَا تَجَرُّدَهُ) أَيْ هَذَا الْأَمْرِ عَنْ الْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِوُجُوبِ مُقْتَضَاهُ، وَكَيْفَ لَا، وَقَدْ قَرَنَهُ بِقَوْلِهِ {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: ١٤٢] (فَأَمَّا) الِاسْتِدْلَال لِلْوُجُوبِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: ٦٣] أَيْ يُخَالِفُونَ أَمْرَهُ أَوْ يُعْرِضُونَ عَنْ أَمْرِهِ بِتَرْكِ مُقْتَضَاهُ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَيْ مِحْنَةٌ فِي الدُّنْيَا أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ رَتَّبَ عَلَى تَرْكِ مُقْتَضَى أَمْرِهِ أَحَدَ الْعَذَابَيْنِ (فَصَحِيحٌ لِأَنَّ عُمُومَهُ) أَيْ أَمْرِهِ (بِإِضَافَةِ الْجِنْسِ الْمُقْتَضِي كَوْنَ لَفْظِ أَمْرٍ لِمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ خَاصَّةً يُوجِبُهُ) أَيْ الْوُجُوبَ (لِلْمُجَرَّدَةِ) أَيْ لِصِيغَةِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدَةِ مِنْ قَرَائِنِ الْوُجُوبِ لِأَنَّهَا مِنْ أَفْرَادِهِ، ثُمَّ تَلْخِيصُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهَا، وَكُلُّ مُتَوَعَّدٍ عَلَيْهِ حَرَامٌ، فَمُخَالَفَةُ أَمْرِهِ حَرَامٌ وَامْتِثَالُهُ وَاجِبٌ (وَالِاسْتِدْلَالُ) لِلْوُجُوبِ أَيْضًا (بِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ خِلَافُ الْأَصْلِ) لِإِخْلَالِهِ بِالْفَهْمِ (فَيَكُونُ) الْأَمْرُ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ (لِأَحَدِ الْأَرْبَعَةِ) مِنْ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ حَقِيقَةً وَفِي الْبَاقِي مَجَازًا.
وَقَالُوا وَإِنَّمَا خُصَّتْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ فِيمَا سِوَاهَا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِيهِ.
قُلْت: وَهُوَ مُشْكِلٌ بِمَا فِي الْمِيزَانِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْوَاقِفِيَّةِ بِأَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْأَمْرِ بِطَرِيقِ التَّعَيُّنِ بَلْ هِيَ صِيغَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ مَعْنَى الْأَمْرِ وَبَيْنَ الْمَعَانِي الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِيهَا، فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لِكُلِّ حَقِيقَةٍ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْبَعْضُ بِالْقَرِينَةِ، وَهُمْ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ.
(وَالْإِبَاحَةُ وَالتَّهْدِيدُ بَعِيدٌ لِلْقَطْعِ بِفَهْمِ تَرْجِيحِ الْوُجُودِ) وَهُوَ مُنْتَفٍ فِيهِمَا (وَانْتِفَاءُ النَّدْبِ) أَيْضًا ثَابِتٌ (لِلْفَرْقِ بَيْنَ اسْقِنِي وَنَدَبْتُكَ) إلَى أَنْ تَسْقِيَنِي وَلَا فَرْقَ إلَّا الذَّمُّ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ فِي اسْقِنِي، وَعَدَمُهُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ فِي نَدَبْتُكَ إلَى أَنْ تَسْقِيَنِي وَلَوْ كَانَ لِلنَّدَبِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَتَعَيَّنَ كَوْنُهُ لِلْوُجُوبِ، اسْتِدْلَالٌ (ضَعِيفٌ لِمَنْعِهِمْ) أَيْ النَّادِبِينَ (الْفَرْقَ) بَيْنَهُمَا (وَلَوْ سُلِّمَ) أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا (فَيَكُونُ نَدَبْتُكَ نَصًّا) فِي النَّدْبِ (وَاسْقِنِي) لَيْسَ بِنَصٍّ فِيهِ بَلْ (يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ) وَالنَّدْبَ لَكِنْ قِيلَ عَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ الْفَرْقِ بِالنُّصُوصِيَّةِ وَالظُّهُورِ عَدَمُ الْفَرْقِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى (وَأَيْضًا لَا يَنْتَهِضُ) هَذَا (عَلَى الْمَعْنَوِيِّ، إذْ نَفْيُ اللَّفْظِيِّ لَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْحَقِيقَةِ بِأَحَدِهَا) أَيْ الْأَرْبَعَةِ الَّذِي هُوَ الْوُجُوبُ (وَلَوْ أَرَادَ) الْمُسْتَدِلُّ بِالِاشْتِرَاكِ خِلَافَ الْأَصْلِ (مُطْلَقَ الِاشْتِرَاكِ) لِيَشْمَلَ اللَّفْظِيَّ وَالْمَعْنَوِيَّ (مَنَعْنَا كَوْنَ الْمَعْنَوِيِّ خِلَافَ الْأَصْلِ وَلَوْ قَالَ) الْمُسْتَدِلُّ (الْمَعْنَوِيُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْنَوِيٍّ أَخَصَّ مِنْهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، إذْ الْإِفْهَامُ بِاللَّفْظِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ الْخُصُوصُ لِإِفَادَتِهِ الْمَقْصُودَ مِنْ غَيْرِ مُزَاحِمٍ لَهُ فِيهِ وَحِينَئِذٍ كُلَّمَا كَانَ أَخَصَّ كَانَ فِي إفْهَامِهِ الْمُرَادَ أَسْرَعَ وَلِتَوَهُّمِ مُزَاحَمَةِ غَيْرِهِ أَدْفَعَ (اُتُّجِهَ) قَوْلُهُ هَذَا (كَالْمَعْنَوِيِّ الَّذِي هُوَ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ) وَهُوَ الطَّلَبُ (بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي هُوَ وُجُوبٌ فَإِنَّهُ) أَيْ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ (جِنْسٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute