أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَخُصُوصًا عَلَى قَاعِدَةِ الْأَشَاعِرَةِ لَا يُعْرَفُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ فَهِيَ كُلُّهَا نَظَرِيَّةٌ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَعْضٌ مِنْهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْوَصْفِ أَشْبَهَ الضَّرُورِيَّ فَسُمِّيَ بِهِ وَرُتِّبَ عَلَيْهِ إكْفَارُ مُنْكِرِهِ، وَحُكْمُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَطَرَّقَ إلَيْهِ الشَّكُّ مِنْ بَعْضِ الْعُقَلَاءِ، وَمَنَعَ صِحَّتَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْدُودِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ وَلَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ كَمَا أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ أَيْضًا إذَا فُسِّرَتْ الْمَسْأَلَةُ اصْطِلَاحًا بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْحُكْمِ النَّظَرِيِّ وَالضَّرُورِيِّ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَصْلِيَّةٍ بَلْ كَلَامِيَّةٍ كَمَسْأَلَتَيْ كَوْنِ كُلٍّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حُجَّةً كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى الْبَدِيعِ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ أَيْضًا مَا فِي التَّلْوِيحِ.
فَإِنْ قُلْت فَمَا بَالُهُمْ يَجْعَلُونَ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ إثْبَاتَ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ لِلْأَحْكَامِ وَلَا يَجْعَلُونَ مِنْهَا إثْبَاتَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَذَلِكَ؟ . قُلْت: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّظَرِ فِي الْفَنِّ هُوَ الْكَسْبِيَّاتُ الْمُفْتَقِرَةُ إلَى الدَّلِيلِ، وَكَوْنُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حُجَّةً بِمَنْزِلَةِ الْبَدِيهِيِّ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّ لِتَقَرُّرِهِ فِي الْكَلَامِ وَشُهْرَتِهِ بَيْنَ الْأَنَامِ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَلِهَذَا تَعَرَّضُوا لِمَا لَيْسَ إثْبَاتُهُ لِلْحُكْمِ بَيِّنًا كَالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ اهـ. فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْأَبْحَاثَ لَيْسَ مَحَلُّهَا هَذَا الْعِلْمَ بِالذَّاتِ (بِخِلَافِ عُمُومِ النَّكِرَةِ فِي النَّفْيِ فَإِنَّهُ) أَيْ الْعُمُومُ (حَالٌ) أَيْ عَرَضٌ ذَاتِيٌّ (لِلدَّلِيلِ) كَمَا تَقَدَّمَ، وَالنَّكِرَةُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ عُمُومِهَا وَعَدَمِهِ مِمَّا يَتَحَقَّقُ بِاسْمِ الدَّلِيلِ إذْ لَا بُدَّ أَنْ نُفِيدَ حُكْمًا مَا فَالْبَحْثُ عَنْ عُمُومِهَا إذَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ بَحْثٌ أَصْلِيٌّ (فَعَنْ هَلِيَّةِ الْمَوْضُوعِ الْبَسِيطَةِ أَوْلَى) أَيْ ثُمَّ إذَا كَانَ الْبَحْثُ عَنْ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ لَيْسَ مِنْ الْأُصُولِ فَالْبَحْثُ عَنْ وُجُودِ الْمَوْضُوعِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْبَسِيطَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا وُجُودُ الشَّيْءِ كَمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْمُرَكَّبَةَ، وَهِيَ الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا وُجُودُ شَيْءٍ لِشَيْءٍ مِنْ بَابِ الْبَحْثِ عَنْ حَالِ الْمَوْضُوعِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ هَذَا. (وَقَوْلُهُمْ) فِي تَعْلِيلِ كَوْنِ التَّصْدِيقِ بِهَلِيَةِ ذَاتِ الْمَوْضُوعِ جُزْءًا مِنْ الْعِلْمِ (مَا لَمْ يَثْبُتْ وُجُودُهُ كَيْفَ يَثْبُتُ لَهُ الْأَحْكَامُ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ) أَيْ تَوَقُّفَ الْبَحْثِ عَنْ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْوُجُودِ عَلَى إثْبَاتِ الْوُجُودِ لَهُ إذَا كَانَ نَظَرِيًّا (لَا كَوْنُهَا) أَيْ لَا أَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْقَضَايَا الْبَاحِثَةِ عَنْ هَلِيَّةِ الْمَوْضُوعِ (مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ) الَّذِي جُعِلَ مَوْضُوعُهُ مَا أُثْبِتَ وُجُودُهُ كَيْفَ وَكَوْنُ الشَّيْءِ مَوْضُوعًا أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى وُجُودِهِ فَأَنَّى يَتَحَقَّقُ الشَّيْءُ مَوْضُوعًا لِعِلْمٍ دُونَ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِأَحَدِ الْوُجُودَيْنِ بَلْ بِأَحَدِهِمَا يَتِمُّ كَوْنُهُ مَوْضُوعًا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي أَحْوَالٍ أُخَرَ لَهُ، كَذَا أَفَادَهُ الْمُصَنِّفُ فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي الشِّفَاءِ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّصْدِيقَ بِوُجُودِ الْمَوْضُوعِ مِنْ الْمَبَادِئِ التَّصْدِيقِيَّةِ لَا أَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلْمِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْمَوْضُوعِ هُوَ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُوَ طَرِيقُ الْآمِدِيِّ وَصَاحِبِ الْبَدِيعِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقِيلَ هِيَ وَالتَّرْجِيحُ وَالِاجْتِهَادُ؛ لِأَنَّهُ يُبْحَثُ عَنْ أَعْرَاضِهِمَا فِيهِ وَرُدَّ إلَى الْمَشْهُورِ بِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْ التَّرْجِيحِ بَحْثٌ عَنْ أَعْرَاضِ الْأَدِلَّةِ بِاعْتِبَارِ تَرَجُّحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْ تَسَاقُطِهَا بِهِ لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ، وَعَنْ الِاجْتِهَادِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ إنَّمَا يَسْتَنْبِطُ مِنْهَا الْأَحْكَامَ الْمُجْتَهِدُ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ أَحْوَالُ الْأَدِلَّةِ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتُهَا عَلَى الْأَحْكَامِ إمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ تَعَارُضِهَا أَوْ اسْتِنْبَاطِهَا مِنْهَا فَتَكُونُ هِيَ مَوْضُوعَ الْعِلْمِ بِالْحَقِيقَةِ، وَالْبَحْثُ عَنْ التَّرْجِيحِ وَالِاجْتِهَادِ رَاجِعًا إلَيْهَا، وَقِيلَ الْأَدِلَّةُ وَالْأَحْكَامُ وَصَحَّحَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ ثُمَّ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ؛ لِأَنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ الْعَوَارِضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْأَدِلَّةِ، وَهِيَ إثْبَاتُهَا الْحُكْمَ وَالْعَوَارِضَ الذَّاتِيَّةَ لِلْأَحْكَامِ، وَهِيَ ثُبُوتُهَا بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَحَقَّقَ هَذَا الْمُحَقِّقُ ذَلِكَ بِأَنَّا رَجَّعْنَا الْأَدِلَّةَ بِالتَّعْمِيمِ إلَى الْأَرْبَعَةِ وَالْأَحْكَامَ إلَى الْخَمْسَةِ وَنَظَرْنَا فِي الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلَّقَةِ بِكَيْفِيَّةِ إثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ إجْمَالًا فَوَجَدْنَا بَعْضَهَا رَاجِعَةً إلَى أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَبَعْضَهَا إلَى أَحْوَالِ الْأَحْكَامِ فَجَعْلُ أَحَدِهِمَا مِنْ الْمَقَاصِدِ وَالْآخَرَ مِنْ اللَّوَاحِقِ تَحَكُّمٌ؛ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ مَبَاحِثَ الْأَدِلَّةِ أَكْثَرُ وَأَهَمُّ لَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْأَصَالَةَ وَالِاسْتِقْلَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute