الْقُرْآنِ (إمَّا لِكَوْنِ الضَّمِيرِ) فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: ٢] (لَهُ) أَيْ لِلْقُرْآنِ (وَهُوَ) أَيْ الْقُرْآنُ (مِمَّا يَصْدُقُ الِاسْمُ) أَيْ اسْمُهُ (عَلَى بَعْضِهِ) أَيْ بَعْضِ مُسَمَّاهُ (كَكُلِّهِ كَالْعَسَلِ) فَإِنَّهُ كَمَا يَصْدُقُ الْعَسَلُ عَلَى الْقَلِيلِ مِنْهُ وَالْكَثِيرِ يَصْدُقُ الْقُرْآنُ عَلَى جُزْءٍ مِنْهُ وَعَلَى جَمِيعِهِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ جُزْءًا مِنْهُ حَنِثَ لِمُشَارَكَةِ الْجُزْءِ الْكُلَّ فِي الِاتِّفَاقِ فِي الْحَقِيقَةِ فَيَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ الْقُرْآنُ وَيُرَادُ بِهِ بَعْضُهُ وَلَا رَيْبَ فِي كَوْنِهِ عَرَبِيًّا (بِخِلَافِ الْمِائَةِ وَالرَّغِيفِ) مِمَّا لَا يُشَارِكُ الْجُزْءُ الْكُلَّ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصْدُقُ فِيهِ الِاسْمُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْكُلِّ وَالْجُزْءِ حَقِيقَةً فَلَا يُطْلَقُ الِاسْمُ وَيُرَادُ بِهِ الْجُزْءُ حَقِيقَةً (أَوْ) لِكَوْنِ الضَّمِيرِ (لِلسُّورَةِ) بِاعْتِبَارِ الْمُنْزَلِ أَوْ الْمَذْكُورِ أَوْ الْقُرْآنِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَآلَ هَذَيْنِ فِي الْمَعْنَى وَاحِدٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا سِوَى أَنَّ عَلَى هَذَا الضَّمِيرَ لِبَعْضٍ مُعَيَّنٍ هُوَ السُّورَةُ وَعَلَى الْأَوَّلِ الضَّمِيرُ لِبَعْضٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ السُّورَةَ أَوْ غَيْرَهَا وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا يُطْلَقُ مُرَادًا بِهِ الْمَفْهُومُ الْكُلِّيُّ الصَّادِقُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُ وَعَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِهِ فَيَأْتِي فِيهِ مَا ذَكَرْنَا يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَجْمُوعُ الشَّخْصِيُّ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ إرَادَتُهُ فِي كَلَامِ إطْلَاقٍ لِيَنْدَفِعَ بِهِ كُلٌّ مِنْ التَّوْجِيهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هَذَا وَابْنُ الْحَاجِبِ إنَّمَا أَجَابَ أَوَّلًا بِأَنَّ الضَّمِيرَ لِلسُّورَةِ ثُمَّ تَنَزَّلَ إلَى أَنَّهُ
وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لِلْقُرْآنِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا بِوُقُوعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِيهِ إذْ يَصِحُّ إطْلَاقُ اسْمِ الْعَرَبِيِّ عَلَى مَا غَالِبُهُ عَرَبِيٌّ مَجَازًا كَشِعْرٍ فِيهِ فَارِسِيٌّ وَعَرَبِيٌّ أَكْثَرُ مِنْهُ وَإِطْلَاقُ الْعَرَبِيِّ عَلَى الْقُرْآنِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ حَقِيقَةً فِيهِ غَايَتُهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنْ يُقَالَ الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ لَكِنَّ الْمَجَازَ قَدْ يُرْتَكَبُ لِلدَّلِيلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهَا حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً (وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ سَمَّوْا قِسْمًا مِنْ) الْحَقَائِقِ (الشَّرْعِيَّةِ) حَقِيقَةً (دِينِيَّةً وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الدِّينِ وَعَدَمِهِ اتِّفَاقًا كَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْمُؤْمِنِ) وَالْكَافِرِ (بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ) أَيْ مَا هِيَ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَوَارِحِ فَإِنَّ فِيهَا خِلَافًا (كَالصَّلَاةِ وَالْمُصَلِّي وَلَا مُشَاحَّةَ وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ) عَلَى قَوْلِهِمْ (الدِّينُ لِأَنَّهُ) أَيْ الدِّينَ اسْمٌ (لِمَجْمُوعِ التَّصْدِيقِ الْخَاصِّ) الْقَلْبِيِّ بِكُلِّ مَا عُلِمَ مَجِيءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ضَرُورَةً (مَعَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: ٥] بَعْدَ ذِكْرِ الْأَعْمَالِ) أَيْ قَوْله تَعَالَى {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: ٥] فَذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْمَذْكُورِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: ٥] عَلَى أَنَّهَا لِلْعُمُومِ لِأَنَّ يَعْبُدُوا فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ إلَى الضَّمِيرِ لِكَوْنِهِ مَنْصُوبًا بِأَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ الْمُقَدَّرَةِ بَعْدَ لَامِ كَيْ وَالْمَصْدَرُ الْمُضَافُ إلَى الْمَعْرِفَةِ يُفِيدُ الْعُمُومَ فَيَكُونُ يَعْبُدُوا فِي مَعْنَى عِبَادَاتِهِمْ وَتَذْكِيرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِاعْتِبَارِ لَفْظِ أَنْ يَعْبُدُوا وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: ٥] مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: ٤]
وَقَدْ تَعَلَّقَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ لِلْوُجُوبِ بِهَا فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: ٥] جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ دِينُ الْمِلَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ (وَالِاتِّفَاقُ عَلَى اعْتِبَارِ التَّصْدِيقِ فِي مُسَمَّاهُ) أَيْ الدِّينِ بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ (فَنَاسَبَ تَمْيِيزَ الِاسْمِ الْمَوْضُوعِ لَهُ) أَيْ لِلتَّصْدِيقِ الْخَاصِّ (شَرْعًا بِالدِّينِيَّةِ وَهَذِهِ) الْمُنَاسَبَةُ (عَلَى رَأْيِهِمْ) أَيْ الْمُعْتَزِلَةِ (فِي اعْتِبَارِ الْأَعْمَالِ جُزْءُ مَفْهُومِهِ) أَيْ الْإِيمَانِ (وَعَلَى) رَأْيِ (الْخَوَارِجِ) الْمُنَاسَبَةُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ (أَظْهَرُ) مِنْهَا عَلَى رَأْيِ الْمُعْتَزِلَةِ لِجَعْلِ الْمُعْتَزِلَةِ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ وَجَعْلِ الْخَوَارِجِ مُرْتَكِبَهَا كَافِرًا (وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ) أَيْ كَوْنِ الْأَعْمَالِ جُزْءَ مَفْهُومِ الْإِيمَانِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا (نَفْيُهَا) أَيْ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي مَا يُصْلَحُ مُنَاسَبَةً لِوَضْعِ الِاصْطِلَاحِ (إذْ يَكْفِي أَنَّهَا) أَيْ الدِّينِيَّةَ (اسْمٌ لِأُصَلِّ الدِّينِ وَأَسَاسِهِ أَعْنِي التَّصْدِيقَ فَظَهَرَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي إثْبَاتِ نَفْيِ أَنَّهَا مِنْهُ (مَعَ أَنَّهُ) أَيْ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ (يَخْرُجُ إلَى فَنٍّ آخَرَ) أَيْ عِلْمِ الْكَلَامِ (وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى ذَلِكَ (مَطْلُوبٌ أُصُولِيٌّ بَلْ اصْطِلَاحِيٌّ وَفِي غَرَضٍ سَهْلٍ وَهُوَ إثْبَاتُ مُنَاسَبَةِ تَسْمِيَةٍ اصْطِلَاحِيَّةٍ لَا يُفِيدُ نَفْيُهَا فَعَلَى الْمُحَقِّقِ تَرْكُهُ) وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِابْنِ الْحَاجِبِ حَيْثُ تَعَرَّضَ لَهُ (تَتِمَّةً كَمَا يُقَدَّمُ الشَّرْعِيُّ فِي لِسَانِهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute