الْعَادِي مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ يَتَأَتَّى فِيهِ تَجْوِيزُ النَّقِيضِ كَمَا اقْتَضَاهُ هَذَا التَّحْقِيقُ، وَقَدْ فُرِضَ أَنَّ الْقَطْعِيَّ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ (فَالْحَقُّ أَنَّ الْعِلْمَ كَذَلِكَ) أَيْ حَالَ كَوْنِهِ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَجْوِيزُ النَّقِيضِ أَنْ يُقَالَ (هُوَ مَا) أَيْ حُكْمُ (مُوجِبِهِ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ كَالْعَقْلِ وَالْخَبَرِ الصَّادِقِ) وَالْحِسِّ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْمُوجِبَاتِ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ أَصْلًا لِاسْتِحَالَتِهِ عَلَيْهَا. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مَا مُوجِبُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخُرُوجَ عَنْ كَوْنِهِ مُوجِبًا لَهُ فَخَرَجَ الْعَادِيُّ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ بِخَرْقِهَا كَمَا ذَكَرْنَا هَذَا غَايَةُ مَا ظَهَرَ لِي فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ مَا قَالُوا أَنَّ مَعْنَى احْتِمَالِ الْعَادِيَاتِ تَجْوِيزُ النَّقِيضِ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُ ذَلِكَ النَّقِيضِ بَدَلَهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ مُحَالٌ لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعَادِيَةَ مُمْكِنَةٌ فِي حَدِّ ذَاتِهَا وَالْمُمْكِنُ لَا يَسْتَلْزِمُ شَيْءٌ مِنْ طَرَفَيْهِ مُحَالًا لِذَاتِهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا جَارٍ فِي جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ الْوَاقِعَةِ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْعَادِيَةِ، وَأَنَّ مَعْنَى عَدَمِ احْتِمَالِ الْعِلْمِ لِلنَّقِيضِ هُوَ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُجَوِّزُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ كَوْنَ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ نَقِيضَ ذَلِكَ الْحُكْمِ حِينَئِذٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ لِامْتِنَاعِ إمْكَانِ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ ثُبُوتُهُ فِي الْعُلُومِ الْعَادِيَةِ كَمَا فِي الْعُلُومِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْحِسِّ وَغَيْرِهَا فَكَمَا أَنَّهُ إذَا شَاهَدَ حَرَكَةَ زَيْدٍ وَبَيَاضَ جِسْمٍ لَا يُجَوِّزُ الْعَقْلُ أَلْبَتَّةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَوْنَ زَيْدٍ سَاكِنًا وَالْجِسْمِ أَسْوَدَ بَلْ يَقْطَعُ بِأَنَّ الْوَاقِعَ هُوَ هَذِهِ النِّسْبَةُ لَا غَيْرُ فَالْعِلْمُ الْعَادِي كَذَلِكَ وَيُوَافِقُهُ مَا قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ التَّمَانُعِ مِنْ كِتَابِهِ الْمُسَايَرَةِ: أَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ فِي مَفْهُومِ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ اسْتِحَالَةُ النَّقِيضِ بَلْ مُجَرَّدُ الْجَزْمِ عَنْ مُوجِبٍ بِأَنَّ الْآخَرَ هُوَ الْوَاقِعُ، وَإِنْ كَانَ نَقِيضُهُ لَمْ يَسْتَحِلْ وُقُوعُهُ اهـ. فَإِذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ نَعْلَمَ كَوْنَ الْجَبَلِ حَجَرًا مُشَاهَدَةً وَبَيْنَ أَنْ نَعْلَمَ ذَلِكَ عَادَةً فِي التَّجْوِيزِ الْعَقْلِيِّ وَنَفْيُ الِاحْتِمَالِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَا يَكُونُ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ مَا مُوجِبُهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ نَعَمْ الْعِلْمُ بِالْأُمُورِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ لِذَاتِهَا كَالْعِلْمِ بِوُجُوبِ وُجُودِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ وَبِامْتِنَاعِ شَرِيكِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا التَّجْوِيزُ الْعَقْلِيُّ لِلنَّقِيضِ لَكِنَّ التَّعْرِيفَ الْمَذْكُورَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ نَفْيُ كِلَيْهِمَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ فِي الْقَطْعِيِّ نَفْيُ كِلَيْهِمَا لَأَدَّى إلَى انْحِصَارِ الْقَطْعِيِّ اصْطِلَاحًا فِي الْعِلْمِ بِالْوَاجِبِ وَالْمُمْتَنِعِ لِذَاتَيْهِمَا لَا غَيْرُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا كَمَا يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْمُصَنِّفِ آنِفًا بَلْ قَدْ ذَكَرَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَسْتَعْمِلُونَ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ فِي مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ أَصْلًا كَالْمُحْكَمِ وَالْمُتَوَاتِرِ وَالثَّانِي مَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ النَّاشِئَ عَنْ دَلِيلٍ كَالظَّاهِرِ وَالنَّصِّ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ مَثَلًا، وَالْأَوَّلُ يُسَمُّونَهُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَالثَّانِي عِلْمَ الطُّمَأْنِينَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَالظَّنُّ حُكْمٌ يَحْتَمِلُهُ) أَيْ يَحْتَمِلُ مُتَعَلَّقُهُ الَّذِي هُوَ طَرَفَاهُ نَقِيضَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ احْتِمَالًا (مَرْجُوحًا) بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ خَطَرَ بِالْبَالِ لَحَكَمَ بِإِمْكَانِهِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ فَهُوَ صَادِقٌ، وَإِلَّا فَهُوَ كَاذِبٌ، وَهُوَ صِنْفٌ مِنْ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ عَلَى مَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ قَرِيبًا وَنُوَافِقُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ تَقْيِيدِهِ بِمَا يَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ قِيلَ إنَّمَا يُسَمَّى الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ ظَنَّا إذَا لَمْ يَأْخُذْ الْقَلْبُ بِالرَّاجِحِ وَلَمْ يَطْرَحْ الْآخَرَ أَمَّا إذَا عَقَدَ الْقَلْبُ عَلَى الرَّاجِحِ وَتَرَكَ الْمَرْجُوحَ يُسَمَّى الرَّاجِحُ أَكْبَرَ الظَّنِّ وَغَالِبَ الرَّأْيِ، وَهُوَ غَرِيبٌ بَلْ الْمَعْرُوفُ أَنَّ الظَّنَّ هُوَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ أَخَذَ الْقَلْبُ بِهِ وَطَرَحَ الْمَرْجُوحَ أَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ وَلَمْ يَطْرَحْ الْآخَرُونَ، وَأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ زِيَادَةٌ عَلَى أَصْلِ الرُّجْحَانِ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْجَزْمُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ (وَهُوَ) أَيْ وَالِاحْتِمَالُ الْمَرْجُوحُ أَيْ مُلَاحَظَتُهُ هُوَ (الْوَهْمُ) . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ حَافِظَ الدِّينِ النَّسَفِيَّ ذَكَرَ فِي أَوَائِلِ كَشْفِ الْأَسْرَارِ تَقْسِيمًا يَخْرُجُ مِنْهُ تَفْسِيرُ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى تَعَقُّبِ أُمُورٍ مِنْهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ نَسُوقَهُ لِيُعْلَمَ مَا هُوَ مَحَلُّ التَّعَقُّبِ مِنْهُ عِنْدَ تَعَرُّضِ الْمُصَنِّفِ لَهُ، وَإِذَا أَحَلْنَا عَلَيْهِ تَقَعُ حَوَالَتُنَا عَلَيْهِ رَائِجَةً.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ الذِّهْنِ بِأَمْرٍ عَلَى آخَرَ إنْ كَانَ جَازِمًا فَجَهْلٌ إنْ لَمْ يُطَابِقْ وَتَقْلِيدٌ إنْ طَابَقَ وَلَمْ يَكُنْ لِمُوجِبٍ، وَعِلْمٌ لَوْ كَانَ لِمُوجِبٍ عَقْلِيٍّ أَوْ حِسِّيٍّ أَوْ مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا فَالْأَوَّلُ بَدِيهِيٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute