الْحَدِّ (مِنْ حَيْثُ هُوَ اسْمِيٌّ) ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَأَتَّى فِيهِ الِاعْتِبَارُ الْمَذْكُورُ، وَعَدَمُهُ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ لِلْحَادِّ قَدْ أَخْرَجْت عَنْ مُسَمَّى اللَّفْظِ كَذَا، وَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِ أَوْ أَدْخَلْته فِيهِ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْهُ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ حَدٌّ حَقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدًّا حَقِيقِيًّا حَتَّى يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ ذَاتِيَّاتِ الْمَحْدُودِ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ النَّظَرُ مَأْخُوذًا فِي تَعْرِيفِ الدَّلِيلِ قَدَّمَ تَفْسِيرَهُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى رُجُوعِ النَّظَرِ إلَيْهِ فَقَالَ (وَالنَّظَرُ حَرَكَةُ النَّفْسِ مِنْ الْمَطَالِبِ أَيْ فِي الْكَيْفِ طَالِبَةٌ لِلْمَبَادِئِ بِاسْتِعْرَاضِ الصُّوَرِ أَيْ تَكَيُّفُهَا بِصُورَةٍ صُورَةٍ لِتَجِدَ الْمُنَاسِبَ، وَهُوَ الْوَسَطُ فَتَرَتُّبُهُ مَعَ الْمَطْلُوبِ عَلَى وَجْهٍ مُسْتَلْزِمٍ) . اعْلَمْ أَنَّ النَّظَرَ يُسْتَعْمَلُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا بِمَعَانٍ وَاَلَّذِي يَهُمُّنَا شَرْحُهُ هُنَا الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَيُرَادِفُ الْفِكْرَ فِي الْمَشْهُورِ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ نَفْسُ الِانْتِقَالِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْفِكْرَ فِعْلٌ إرَادِيٍّ صَادِرٍ عَنْ النَّفْسِ لِاسْتِحْصَالِ الْمَجْهُولَاتِ بِالْمَعْلُومَاتِ ثُمَّ كَمَا أَنَّ الْإِدْرَاكَ بِالْبَصَرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ مُوَاجِهَةٍ الْمُبْصِرِ وَتَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ نَحْوِهِ طَلَبًا لِرُؤْيَتِهِ، وَإِزَالَةِ الْغِشَاوَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْإِبْصَارِ، كَذَلِكَ الْإِدْرَاكُ بِالْبَصِيرَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْمَطْلُوبِ وَتَحْدِيقِ الْعَقْلِ نَحْوِهِ طَلَبًا لِإِدْرَاكِهِ وَتَجْرِيدِ الْعَقْلِ عَنْ الْغَفَلَاتِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْغِشَاوَةِ. ثُمَّ حَيْثُ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ النَّظَرَ اكْتِسَابُ الْمَجْهُولَاتِ مِنْ الْمَعْلُومَاتِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِ التَّعَالِيمِ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ كُلَّ مَجْهُولٍ لَا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهُ مِنْ أَيِّ مَعْلُومٍ اُتُّفِقَ بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْلُومَاتٍ مُنَاسَبَةٍ لَهُ وَلَا فِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ بَلْ لَا بُدَّ هُنَاكَ مِنْ تَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ فِيمَا بَيْنَهَا، وَمِنْ هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَارِضَةٍ لَهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ فَنَقُولُ إذَا أَرَدْنَا تَحْصِيلَ مَجْهُولٍ تَصْدِيقِيٍّ مَشْعُورٍ بِهِ مِنْ وَجْهٍ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ انْتَقَلَتْ النَّفْسُ مِنْهُ وَتَحَرَّكَتْ فِي الْمَعْقُولَاتِ حَرَكَةً مِنْ بَابِ الْكَيْفِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْكَيْفِيَّةِ النَّفْسَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ الصُّوَرُ الْمَعْقُولَةُ عَلَى قِيَاسِ الْحَرَكَةِ فِي الْكَيْفِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ طَالِبَةَ الْمَبَادِئِ لِهَذَا الْمَطْلُوبِ أَعْنِي تَكَيَّفَتْ النَّفْسُ بِوَاحِدٍ مِنْ الْمَعَانِي الْمَخْزُونَةِ عِنْدَهَا بَعْدَ وَاحِدٍ بِوَاسِطَةِ اسْتِعْرَاضِهَا، وَمُلَاحَظَتِهَا لِتِلْكَ الْمَعَانِي أَيْ اتَّصَفَتْ بِالْحَالَاتِ الْعَارِضَةِ لَهَا عِنْدَ مُلَاحَظَتِهَا لِلْمَعَانِي الْمَخْزُونَةِ عِنْدَهَا فَإِنَّهَا إذَا لَاحَظَتْ مَعْنًى تَحْصُلُ لَهَا حَالَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهَا مُغَايِرَةٌ لِمَا يَعْرِضُ لَهَا عِنْدَ مُلَاحَظَةِ مَعْنًى آخَرَ وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ طَالِبَةً لِمَبَادِئِ هَذَا الْمَطْلُوبِ إلَى أَنْ تَظْفَرَ بِمُبَادِيهِ أَعْنِي الْأَمْرَ الْمُنَاسِبَ لَهُ الْمُفْضِيَ إلَى الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ بِهِ، وَهَذَا الْأَمْرُ الْمُنَاسِبُ هُوَ الْحَدُّ الْوَسَطُ بَيْنَ طَرَفَيْ الْمَطْلُوبِ فَتَتَحَرَّك فِيهِ مُرَتَّبَةُ لَهُ مَعَ طَرَفَيِّ الْمَطْلُوبِ عَلَى وَجْهٍ مُسْتَلْزَمٍ لَهُ اسْتِلْزَامًا قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا
كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مُفَصَّلًا وَتَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى الْمَطْلُوبِ مَثَلًا إذَا كَانَ مَطْلُوبُ النَّفْسِ كَوْنَ الْعَالَمِ حَادِثًا انْتَقَلَتْ مِنْهُ وَتَرَدَّدَتْ فِي الْمَعَانِي الْحَاضِرَةِ عِنْدَهَا فَوَجَدَتْ الْمُتَغَيِّرَ مُنَاسِبًا لِكَوْنِهِ مَحْمُولًا عَلَى الْعَالَمِ، وَمَوْضُوعًا لِلْحَادِثِ فَرَتَّبْته فَحَصَلَ الْعَالَمُ مُتَغَيِّرٌ وَكُلُّ مُتَغَيِّرٍ حَادِثٌ ثُمَّ رَجَعْت إلَى أَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ فَظَهَرَ أَنَّ هُنَا حَرَكَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَأَنَّ مَا مِنْهُ الْحَرَكَةَ الْأُولَى هُوَ الْمَطْلُوبُ الْمَشْعُورُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَمَا هِيَ فِيهِ هِيَ الصُّوَرُ الْعَقْلِيَّةُ الْمَخْزُونَةُ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَمَا هِيَ إلَيْهِ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ، وَمَا مِنْهُ الْحَرَكَةُ الثَّانِيَةُ هُوَ الْوَسَطُ أَيْضًا، وَمَا هِيَ فِيهِ هِيَ الْحُدُودُ، وَمَا هِيَ إلَيْهِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْمَطْلُوبِ، وَأَنَّ الْحَرَكَةَ الْأُولَى تَحْصُلُ مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَادَّةِ أَعْنِي مَبَادِئَ الْمَطْلُوبِ الَّتِي يُوجَدُ مَعَهَا الْفِكْرَةُ بِالْقُوَّةِ وَالثَّانِيَةُ تَحْصُلُ مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الصُّورَةِ أَعْنِي التَّرْتِيبَ الَّذِي يُوجَدُ مَعَهُ الْفِكْرُ بِالْفِعْلِ وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ الْفِكْرُ بِجُزْأَيْهِ مَعًا، وَإِلَّا فَالْفِكْرُ عَرَضٌ لَا مَادَّةٌ لَهُ ثُمَّ هَذَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَوَسِّطَ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَجْهُولَاتِ فِي الِاسْتِحْصَالِ هُوَ مَجْمُوعُ الِانْتِقَالَيْنِ إذْ بِهِ يُتَوَصَّلُ مِنْ الْمَعْلُومِ إلَى الْمَجْهُولِ تَوَصُّلًا اخْتِيَارِيًّا، وَأَمَّا التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ لَازِمٌ لَهُ بِوَاسِطَةِ الْجُزْءِ الثَّانِي، وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَعَلَى إنَّ الْفِكْرَ هُوَ ذَلِكَ التَّرْتِيبُ الْحَاصِلُ مِنْ الِانْتِقَالِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْمَجْهُولِ مِنْ مُبَادِيهِ يَدُورُ عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute