ذِمَّةٌ وَ (عَهْدٌ) فَالرَّقَبَةُ تَفْسِيرٌ لِلنَّفْسِ وَالْعَهْدُ تَفْسِيرٌ لِلذِّمَّةِ (وَالْمُرَادُ أَنَّهَا) أَيْ الذِّمَّةَ (الْعَهْدُ) الْمُشَارُ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: ١٧٢] الْآيَةَ وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ مُوَضِّحَةً ذَلِكَ.
فَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: ١٧٢] الْآيَةَ قَالَ جَمَعَهُمْ لَهُ يَوْمَئِذٍ جَمِيعًا مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَجَعَلَهُمْ أَزْوَاجًا ثُمَّ صَوَّرَهُمْ فَاسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدَنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ قَالَ فَإِنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ فَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا فَإِنِّي أُرْسِلُ إلَيْكُمْ رُسُلًا يُذَكِّرُونَكُمْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي وَأُنْزِلُ عَلَيْكُمْ كُتُبِي فَقَالُوا نَشْهَدُ أَنَّك رَبُّنَا وَإِلَهُنَا لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُك وَرُفِعَ لَهُمْ أَبُوهُمْ آدَم فَرَأَى فِيهِمْ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَحَسَنَ الصُّورَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَقَالَ يَا رَبِّ لَوْ سَوَّيْت بَيْنَ عِبَادِك فَقَالَ إنِّي أُحِبُّ أَنْ أُشْكَرَ وَرَأَى فِيهِمْ الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ السُّرُجِ وَخُصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} [الأحزاب: ٧] وَهُوَ قَوْلُهُ {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: ٣٠] وَهُوَ قَوْلُهُ {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} [النجم: ٥٦] وَقَوْلُهُ {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: ١٠٢] وَكَانَ رُوحُ عِيسَى مِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الَّتِي أُخِذَ عَلَيْهَا الْمِيثَاقُ فَأُرْسِلَ ذَلِكَ الرُّوحُ إلَى مَرْيَمَ حِينَ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَدَخَلَ مِنْ فِيهَا.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ لِهَذَا الْمَوْقُوفِ حُكْمَ الرَّفْعِ فَإِنْ قِيلَ مَا السَّبَبُ فِي أَنَّ النَّاسَ لَا يَذْكُرُونَ ذَلِكَ أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَرْوَاحًا مُجَرَّدَةً وَالذِّكْرُ إنَّمَا هُوَ بِحَاسَّةٍ بَدَنِيَّةٍ أَوْ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْبَدَنِ وَالْبَدَنُ وَقُوَاهُ وَمُتَعَلِّقَاتُهُ إنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا السُّؤَالُ كَمَنْ يَقُولُ لَوْ كَانَ زَيْدٌ حَضَرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ لَكَانَ ثَوْبُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ حُضُورِهِ مُجَرَّدًا عَنْ لِبَاسٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَجَرُّدُ النَّفْسِ شَرْطًا فِي ذَلِكَ أَوْ تَعَلُّقُهَا بِالْبَدَنِ مَانِعًا مِنْهُ فَإِذَا تَجَرَّدَتْ بِالْمَوْتِ كُشِفَ عَنْهَا غِطَاؤُهَا فَأَبْصَرَتْ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَوَرَاءَهَا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ الْآنَ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَهُمْ لَا يَذْكُرُونَهُ فَالْجَوَابُ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ الْآنَ بَلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ الْمَقَامَ إمَّا بِخَلْقِ الذِّكْرِ فِيهِمْ أَوْ بِإِزَالَةِ الْمُوجِبِ لِلنِّسْيَانِ ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمَا لَمْ يَذْكُرُوا كَمَا لَزِمَهُمْ الْإِيمَانُ بِمَا لَمْ يُدْرِكُوا وَلِأَنَّ الصَّادِقَ أَخْبَرَهُمْ بِوُقُوعِ ذَلِكَ الْمَقَامِ فَلَزِمَهُمْ تَصْدِيقُهُ ثُمَّ تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَقَوْلُ الْقَائِلِ (فَفِي ذِمَّتِهِ) كَذَا مُرَادٌ بِهِ (فِي نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ عَهْدِهَا مِنْ) إطْلَاقِ (الْحَالِ) وَهُوَ الذِّمَّةُ (فِي الْمَحَلِّ) وَهُوَ النَّفْسُ أَيْ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَحَلِّ بِاسْمِ الْحَالِ (جُعِلَتْ) النَّفْسُ (كَظَرْفٍ) يَسْتَقِرُّ فِيهِ الْوُجُوبُ (لِقُوَّةِ التَّعَلُّقِ فَقَبْلَ الْوِلَادَةِ) الْجَنِينُ جُزْءٌ مِنْ أُمِّهِ مِنْ وَجْهٍ حِسًّا لِقَرَارِهِ وَانْتِقَالِهِ بِقَرَارِهَا وَانْتِقَالِهَا كَيَدِهَا وَرِجْلِهَا وَحُكْمًا لِعِتْقِهِ وَرَقِّهِ وَدُخُولِهِ فِي الْبَيْعِ بِعِتْقِهَا وَرَقِّهَا وَبَيْعِهَا (ثُمَّ نَفْسٌ مُنْفَصِلٌ مِنْ وَجْهٍ) أَيْ إنْسَانٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ التَّفَرُّدِ بِالْحَيَاةِ (فَهِيَ) أَيْ الذِّمَّةُ ثَابِتَةٌ (مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوبِ لَهُ مِنْ وَصِيَّةٍ وَمِيرَاثٍ وَنَسَبٍ وَعِتْقٍ عَلَى الِانْفِرَادِ) أَيْ دُونَ الْأُمِّ إذَا كَانَ مُحَقَّقُ الْوُجُودِ وَقْتَ تَعَلُّقِ وُجُوبِهَا لَهُ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ (لَا عَلَيْهِ) أَيْ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ (فَلَا يَجِبُ فِي مَالِهِ ثَمَنُ مَا اشْتَرَى الْوَلِيُّ لَهُ وَبَعْدَ الْوِلَادَةِ تَمَّتْ لَهُ) الذِّمَّةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (فَاسْتَعْقَبَتْ) الذِّمَّةُ الْوُجُوبَ (لَهُ وَعَلَيْهِ إلَّا مَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَائِهِ لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ) أَيْ ذَلِكَ الْوَاجِبُ الْعَاجِزُ عَنْهُ (مِمَّا لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مُجَرَّدَ الْمَالِ) فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ كَمَا تَعْتَمِدُ قِيَامَ الذِّمَّةِ وَوُجُودَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَهِيَ مَحَلُّهُ تَعْتَمِدُ صَلَاحِيَّةُ الْوُجُوبِ لِلْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ بِالْوُجُوبِ وَمَا لَيْسَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ مُجَرَّدَ الْمَالِ مُنْتَفٍ عَنْهُ لِعَجْزِهِ عَنْ أَدَائِهِ كَالْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ فَإِنَّ فَائِدَةَ وُجُوبِهَا الْأَدَاءُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ عَنْ اخْتِيَارٍ وَقَصْدٍ صَحِيحٍ وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا يَنُوبُ وَلِيُّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ جَبْرِيٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute