عَلَى الْفَوْرِ وَجَبَ تَبْلِيغُ أَحْكَامِهَا وَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ وَجَبَ تَبْلِيغُ الْأَحْكَامِ مُطْلَقًا إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ وَإِلَّا شَبَّهَ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يُوجِبُ تَبْلِيغَ كُلِّ مَا أُنْزِلَ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ تَبْلِيغُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ الْعِبَادِ وَقَصَدَ بِإِنْزَالِهِ اطِّلَاعَهُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّ مِنْ الْأَسْرَارِ الْإِلَهِيَّةِ مَا يَحْرُمُ إفْشَاؤُهُ، ثُمَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقَعَتْ فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ تَفْرِيعًا عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ عَنْهُ وَمَا سَلَكَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ تَفْرِيعِهَا عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُخَصَّصِ عَنْهُ الَّذِي هُوَ مِنْ بَيَانِ التَّغْيِيرِ أَوْجَهُ؛ لِأَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ جَوَازُ تَأْخِيرِ التَّبْلِيغِ أَجْوَزَ مِنْ جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ عَنْهُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي عَدَمِ الْمَانِعِ، وَالْفَرْضُ دَعْوَى الْأَجْوَزِيَّةِ بِخِلَافِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَلْيُتَأَمَّلْ
(مَسْأَلَةٌ وَالْأَكْثَرُ) وَمِنْهُمْ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَابْنُ الْحَاجِبِ (يَجِبُ زِيَادَةُ قُوَّةِ الْمُبَيِّنِ لِلظَّاهِرِ) عَلَيْهِ (وَالْحَنَفِيَّةُ تُجَوِّزُ الْمُسَاوَاةَ) بَيْنَهُمَا فِي الْقُوَّةِ (وَدُفِعَ بِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ الْمُبَيِّنِ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الرَّاجِحِ) مَعَ الْمَرْجُوحِ (لِتَقَدُّمِهِ) أَيْ الرَّاجِحِ عَلَى الْمَرْجُوحِ (فِي الْمُعَارَضَةِ وَيُدْفَعُ) هَذَا الدَّفْعُ (بِأَنَّ مُرَادَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ الْمُسَاوَاةُ (فِي الثُّبُوتِ لَا الدَّلَالَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَوَّلَ مُبَيِّنٌ) وَعَدَمُ الْأَوْلَوِيَّةِ فِي الْمَعْنَى إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُسَاوَاةِ فِي الدَّلَالَةِ وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ وَيَجُوزُ بِالْأَدْنَى أَيْضًا فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إلْغَاءُ الرَّاجِحِ بِالْمَرْجُوحِ (وَ) بَيَانُ (تَفْسِيرٍ وَهُوَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ) بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَا فِيهِ خَفَاءٌ فَيَعُمُّ بِاصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ الْخَفِيَّ وَالْمُشْتَرَكَ وَالْمُشْكِلَ وَالْمُجْمَلَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْكَشْفِ وَغَيْرُهُ (وَيَجُوزُ) بَيَانُ التَّفْسِيرِ (بِأَضْعَفِ) دَلَالَةٍ (إذْ لَا تَعَارُضَ) بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَالْبَيَانِ (لِيَتَرَجَّحَ) الْبَيَانُ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُ إلْغَاءُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ (وَ) يَجُوزُ (تَرَاخِيهِ) أَيْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِهِ (إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ وَهُوَ وَقْتُ تَعْلِيقِ التَّكْلِيفِ) بِالْفِعْلِ (مُضَيَّقًا) عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ أَصْحَابُنَا وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَابْنُ الْحَاجِبِ فِي غَالِبِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
(وَعَنْ الْحَنَابِلَةِ وَالصَّيْرَفِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ) وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ كَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ (مَنْعُهُ) أَيْ مَنْعُ تَرَاخِيهِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِهِ إلَّا أَنَّ الْإسْفَرايِينِيّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ نَزَلَ ضَيْفًا عَلَى الصَّيْرَفِيِّ فَنَاظَرَهُ فِي هَذَا فَرَجَعَ إلَى الْجَوَازِ (لَنَا لَا مَانِعَ عَقْلًا) مِنْ جَوَازِهِ (وَوَقَعَ شَرْعًا كَآيَتَيْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) أَيْ {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: ٤٣] (، ثُمَّ بَيَّنَ) النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الْأَفْعَالَ) لِلصَّلَاةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا (وَالْمَقَادِيرَ) لِلزَّكَاةِ كَمَا فِي كُتُبَ الصَّدَقَاتِ كَكِتَابِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَكِتَابِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَكِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ وَغَيْرِهَا (أَمَّا) تَرَاخِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ (عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ فَيَجُوزُ) عَقْلًا (عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ) وَهُمْ الْأَشَاعِرَةُ (لَكِنَّهُ) أَيْ تَرَاخِيهِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ (غَيْرُ وَاقِعٍ) شَرْعًا وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ فَلَا يَجُوزُ هَذَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ لَا مَانِعَ عَقْلًا (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُجْمَلَ (قَبْلَ الْبَيَانِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا) عَلَى الْمُكَلَّفِ مِمَّا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ بَلْ إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ حَقِيقَةِ الْمُرَادِ مِنْهُ لَا غَيْرُ حَتَّى يَلْحَقَهُ الْبَيَانُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مَا أَظْهَرَ الْبَيَانُ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْهُ (فَلَمْ يَحْكُمْ) الشَّارِعُ عَلَيْهِ (بِوُجُوبٍ مَا لَمْ يَعْلَمْ) الْمُكَلَّفُ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ (بِحَيْثُ) إذَا لَمْ يَفْعَلْ الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ (يُعَاقَبُ بِعَدَمِ الْفِعْلِ) فَانْتَفَى وَجْهُ الْمَانِعِينَ لَهُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْخِطَابِ إيجَابُ الْعَمَلِ وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفَهْمِ وَالْفَهْمُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْبَيَانِ فَلَوْ جَازَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ أَدَّى إلَى تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ (وَبِهِ) أَيْ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا قَبْلَ الْبَيَانِ (انْدَفَعَ قَوْلُهُمْ) أَيْ الْمَانِعِينَ لَهُ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْمُجْمَلِ (يُؤَدِّي إلَى الْجَهْلِ الْمُخِلِّ بِفِعْلِ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ) فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْجَهْلَ بِصِفَةِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ صِفَتَهَا إنَّمَا تُعْلَمُ بِالْبَيَانِ وَلَا بَيَانَ وَالْجَهْلُ بِصِفَةِ الشَّيْءِ يُخِلُّ بِفِعْلِهِ فِي وَقْتِهِ.
وَوَجْهُ انْدِفَاعِهِ أَنَّ وَقْتَ الْعِبَادَةِ وَقْتُ بَيَانِ صِفَتِهَا فَلَا يَخِلُّ بِفِعْلِ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ لِانْتِفَاءِ التَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِهِ قَبْلَ بَيَانِهِ (وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الْمَانِعِينَ لَهُ أَيْضًا: لَوْ جَازَ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ لَكَانَ الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute