للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هُوَ التَّأْخِيرُ الْمُفَوِّتُ عَنْ الْوَقْتِ الْمُضَيَّقِ فِيهِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ بَلْ الْمَفْرُوضُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْبَيَانِ بِالْفِعْلِ فِي زَمَانٍ بِحَيْثُ يَمْضِي مِنْهُ الْوَقْتُ الْمُضَيَّقِ فِيهِ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْبَيَانِ بِإِتْمَامِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُبَيَّنِ (فَلَوْ تَعَاقَبَا) أَيْ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ الصَّالِحُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ بَيَانًا (وَعُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ فَهُوَ) أَيْ الْمُتَقَدِّمُ الْبَيَانُ قَوْلًا كَانَ أَوْ فِعْلًا لِحُصُولِهِ بِهِ وَالثَّانِي تَأْكِيدٌ (وَإِلَّا) إذَا لَمْ يُعْلَمْ الْمُتَقَدِّمُ (فَأَحَدُهُمَا) مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ هُوَ الْبَيَانُ أَيْ يُقْضَى بِحُصُولِ الْبَيَانِ بِوَاحِدٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَوَّلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالثَّانِي تَأْكِيدٌ.

وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ الْأَرْجَحُ مِنْهُمَا لِلتَّأَخُّرِ، وَالْمَرْجُوحُ لِلْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَ تَأْكِيدٌ وَالْمَرْجُوحُ لَا يَكُونُ تَأْكِيدًا لِلرَّاجِحِ لِامْتِنَاعِ تَرْجِيحِ الشَّيْءِ بِمَا دُونَهُ فِي الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَكِّدَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَعَلَى الزِّيَادَةِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَلْزَمُ فِي الْمُفْرَدَاتِ كَ جَاءَنِي الْقَوْمُ كُلُّهُمْ أَمَّا الْمُؤَكِّدُ الْمُسْتَقْبَلُ يَعْنِي: مَا لَا يُتَوَقَّفُ فِي كَوْنِهِ بَيَانًا عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَابِعًا فِي الدَّلَالَةِ لِلرَّاجِحِ حَتَّى لَوْ جُعِلَ تَأْكِيدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ وَمِنْ ثَمَّةَ تُذْكَرُ الْجُمَلُ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ لِلتَّأْكِيدِ، وَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ أَضْعَفَ مِنْ الْأُولَى لَوْ اسْتَقَلَّتْ؛ لِأَنَّهَا بِانْضِمَامِهَا إلَيْهَا تُفِيدُهَا تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا لِمَضْمُونِهَا فِي النَّفْسِ زِيَادَةَ تَقْرِيرٍ، ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ إذَا اتَّفَقَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ (فَإِنْ تَعَارَضَا) قَالُوا كَمَا لَوْ طَافَ بَعْدَ آيَةِ الْحَجِّ طَوَافَيْنِ وَأُمِرَ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ وَقَدْ وَرَدَ كِلَاهُمَا «فَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ رُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ (فَالْمُخْتَارُ) وِفَاقًا لِلْإِمَامِ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعِهِ وَابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ (الْقَوْلُ) ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ بِنَفْسِهِ وَالْفِعْلُ لَا يَدُلُّ إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ قَصْدِهِ أَوْ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْفِعْلَ بَيَانٌ لِلْمُجْمَلِ أَوْ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُجْمَلَ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ بِهِ، ثُمَّ يَفْعَلَ فِعْلًا صَالِحًا أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لَهُ وَلَا يَفْعَلَ شَيْئًا آخَرَ وَمَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فِي الدَّلَالَةِ أَوْلَى مِمَّا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى غَيْرِهِ وَقَدْ أُورِدَتْ عَلَى الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْبَغِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ أَدَلُّ مِنْ الْقَوْلِ أَنْ يُقَدَّمَ الْفِعْلُ عَلَى الْقَوْلِ.

فَأَجَابَ أَنَّ مَعْنَى أَدِلِّيَّتِهِ أَنَّ الْفِعْلَ الْجُزْئِيَّ الْمَوْجُودَ فِي الْخَارِجِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ لَا أَنَّهُ بِهَيْئَاتِهِ أَدَلُّ عَلَى كَوْنِهِ الْمُرَادَ بِالْمُجْمَلِ مِنْ دَلَالَةِ الْقَوْلِ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ فَإِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ يُفِيدُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْمُجْمَلِ تَشْتَمِلُ عَلَى هَيْئَاتٍ غَيْرِ مُرَادَةٍ مِنْ الْمُجْمَلِ وَهَذَا لَيْسَ فِي الْقَوْلِ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا أَوْ لَمْ يُعْلَمْ شَيْءٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْقَوْلُ إنْ قُلْنَا الْفِعْلُ هُوَ الْبَيَانُ لَا الْقَوْلُ، ثُمَّ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّائِدُ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ كَالطَّوَافِ الثَّانِي نَدْبٌ أَوْ وَاجِبٌ فِي حَقِّهِ دُونَ أُمَّتِهِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَقَالَ الْآمِدِيُّ الْأَشْبَهُ أَنَّهُ إنْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فَهُوَ الْمُبَيِّنُ وَإِنْ تَأَخَّرَ فَالْفِعْلُ الْمُتَقَدِّمُ مُبَيِّنٌ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الطَّوَافَانِ وَالْقَوْلُ الْمُتَأَخِّرُ مُبَيِّنٌ فِي حَقِّنَا حَتَّى يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا طَوَافًا وَاحِدًا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ (وَقَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ) الْبَيَانُ هُوَ (الْمُتَقَدِّمُ) مِنْهُمَا قَوْلًا كَانَ أَوْ فِعْلًا لَوْ كَانَ) الْمُتَقَدِّمُ (الْفِعْلَ) فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ إذَا كَانَ طَوَافَيْنِ فَقَدْ وَجَبَا عَلَيْنَا فَإِذَا أَمَرَ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ فَقَدْ نَسَخَ أَحَدَ الطَّوَافَيْنِ عَنَّا وَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنَّمَا اسْتَلْزَمَ النَّسْخَ بِلَا مُلْزِمٍ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بِأَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ هُوَ الْبَيَانُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُتَقَدِّمُ الْقَوْلَ فَإِنَّ حُكْمَ الْفِعْلِ كَمَا سَبَقَ.

قُلْت: وَقَدْ ذَهَلَ الْإِسْنَوِيُّ فَجَعَلَ هَذَا بِعَيْنِهِ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ وَمُوَافِقِيهِ فَتَنَبَّهْ لَهُ قِيلَ: وَلَوْ نَقَصَ الْفِعْلُ عَنْ مُقْتَضَى الْقَوْلِ فَقِيَاسُ الْمُخْتَارِ أَنَّ الْبَيَانَ الْقَوْلُ وَنَقْصَ الْفِعْلِ عَنْهُ تَخْفِيفٌ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَأَخَّرَ الْفِعْلُ أَوْ تَقَدَّمَ وَقِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ لِأَبِي الْحُسَيْنِ أَنَّ الْبَيَانَ الْمُتَقَدِّمَ فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ فَحُكْمُ الْفِعْلِ كَمَا سَبَقَ أَوْ الْفِعْلُ فَمَا زَادَهُ الْقَوْلُ عَلَيْهِ مَطْلُوبٌ بِالْقَوْلِ، هَذَا وَلَمْ أَقِفْ لِمَشَايِخِنَا عَلَى صَرِيحٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَلَوْ قَالُوا بِالْمُخْتَارِ لَاحْتَاجُوا إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>