نَسَخَ الْمَأْمُورَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ عَمَلِهِ لِلْجَمِيعِ وَمِنْ الِاعْتِقَادِ لِلْأُمَّةِ ظَهَرَ أَنَّ الِابْتِلَاءَ كَانَ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَبُولِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ وَلِأُمَّتِهِ وَلَا بِدْعَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبْتَلَى بِأُمَّتِهِ كَمَا يُبْتَلَى لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ فِي الشَّفَقَةِ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ كَالْأَبِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ، وَالْأَبُ يُبْتَلَى بِوَلَدِهِ كَمَا يُبْتَلَى بِنَفْسِهِ فَلَمْ يُوجَدْ النَّسْخُ إلَّا بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْقَبُولِ، ثُمَّ الِابْتِلَاءُ بِهِمَا كَالِابْتِلَاءِ بِالْفِعْلِ بَلْ أَوْلَى حَتَّى كَانَ الْقَبُولُ إيمَانًا، وَالْفِعْلُ خِدْمَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ رَأْسُ الطَّاعَاتِ وَرَأْسُ الْعِبَادَاتِ
(وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الْمَانِعِينَ (لَا فَائِدَةَ) حِينَئِذٍ فِي التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَدَنِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْأَحْكَامِ إذْ بِهِ يَتَحَقَّقُ الِابْتِلَاءُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ نَفْسِ الْعَمَلِ لَا عَلَى الْعَزْمِ، وَالْعَقْدُ (مُنْتَفٍ بِأَنَّهَا) أَيْ الْفَائِدَةَ فِي التَّكْلِيفِ حِينَئِذٍ (الِابْتِلَاءُ لِلْعَزْمِ) عَلَى الْفِعْلِ إذَا حَضَرَ وَقْتُهُ وَتَهْيِئَةُ أَسْبَابِهِ وَإِظْهَارُ الطَّاعَةِ مِنْ نَفْسِهِ (وَوُجُوبُ الِاعْتِقَادِ) لِحَقِّيَّتِهِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَمَلَ وَحْدَهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بَلْ عَقْدُ الْقَلْبِ مَقْصُودٌ أَيْضًا وَكَيْفَ وَالطَّاعَةُ لَا تُتَصَوَّرُ بِدُونِهِ حَتَّى لَوْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ لَا يَصِحُّ فِعْلُهُ وَعَزِيمَةُ الْقَلْبِ قَدْ تَصِيرُ قُرْبَةً بِلَا فِعْلٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ الْخَيْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَالْإِنْسَانُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ التَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ فَأَتَى بِهِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْإِقْرَارِ اللِّسَانِيِّ كَانَ إيمَانًا صَحِيحًا بِالْإِجْمَاعِ بَلْ الْفِعْلُ بِاحْتِمَالِ السُّقُوطِ فَوْقَ الْعَزِيمَةِ الْقَلْبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَسْقُطُ بِعُذْرِ الْإِغْمَاءِ وَغَيْرِهِ وَالتَّصْدِيقُ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَصْلًا فَإِذَنْ اعْتِبَارُ التَّمَكُّنِ مِنْ عَزِيمَةِ الْقَلْبِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ وَيَتَحَرَّرُ أَنَّ حُكْمَ النَّسْخِ بَيَانٌ لِمُدَّةِ عَمَلِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا تَارَةً وَلِمُدَّةِ عَمَلِ الْقَلْبِ وَحْدَهُ تَارَةً، وَإِنَّ الشَّرْطَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَهُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ رَئِيسُ الْأَعْضَاءِ إذْ ابْتِلَاؤُهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ فَكَانَ لَازِمًا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَأَمَّا التَّمَكُّنُ مِنْ الْعَمَلِ فَمِنْ الزَّوَائِدِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بَيَانًا لِمُدَّتِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ وَكَوْنُ الْمَقْصُودِ الْعَمَلَ لَا غَيْرَ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَوَامِرِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّهَا لِجَرِّ النَّفْعِ لَا لِلِابْتِلَاءِ وَذَا يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ لَا بِالِاعْتِقَادِ
(وَأَمَّا إلْحَاقُهُ) أَيْ جَوَازُ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ (بِالرَّفْعِ) أَيْ رَفْعِ الْحُكْمِ (لِلْمَوْتِ) أَيْ لِمَوْتِ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِ مَا كُلِّفَ بِهِ فَكَمَا أَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ تَنَاقُضًا فَكَذَا النَّسْخُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ بِجَامِعِ اسْتِوَائِهِمَا فِي انْقِطَاعِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِمَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَصَاحِبُ الْبَدِيعِ (وَمَا قِيلَ: كُلُّ رَفْعٍ قَبْلَ) وَقْتِ (الْفِعْلِ) كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ ابْنِ الْحَاجِبِ وَهُوَ فِي الْبَدِيعِ أَيْضًا (فَلَيْسَا بِشَيْءٍ لِتَقْيِيدِ الْأَوَّلِ) أَيْ الرَّفْعِ بِالْمَوْتِ (عَقْلًا) أَيْ بِالْعَقْلِ إذْ الْعَقْلُ قَاضٍ بِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ لِلْمَيِّتِ فَلَمْ يُوجَدْ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ بِالْمَوْتِ بِالْعَقْلِ لَا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي الرَّفْعِ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ (لَا مَا قِيلَ: مِنْ مَنْعِ تَكْلِيفِ الْمَعْلُومِ مَوْتَهُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ) مِنْ الْفِعْلِ (لِيُدْفَعَ بِأَنَّهُ إجْمَاعٌ) أَوْ لِزَامٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا بِالتَّكْلِيفِ قَبْلَ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَمُوتُ أَوْ لَا يَمُوتُ كَمَا ذَكَرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ (وَالثَّانِي) أَيْ كُلُّ رَفْعٍ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ (فِي غَيْرِ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ قَائِلَهُ (يُرِيدُ) أَيْ بِالْوَقْتِ (وَقْتَ الْمُبَاشَرَةِ) لَا لِلْفِعْلِ لِمَا ذَكَرْنَا سَالِفًا (وَالنِّزَاعُ) لَيْسَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ بَلْ النِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ رَفْعُ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ (فِي وَقْتِهِ) أَيْ الْفِعْلِ (الَّذِي حُدَّ لَهُ) أَيْ لِلْفِعْلِ شَرْعًا قَبْلَ مُضِيِّ زَمَنٍ مِنْهُ يَسَعُ الْفِعْلَ وَفِيمَا قَبْلَ حُضُورِ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ لِلْفِعْلِ شَرْعًا (وَاسْتَدَلَّ) لِلْمُخْتَارِ (بِقِصَّةِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أُمِرَ) بِذَبْحِ وَلَدِهِ فَأَفَادَ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ
(ثُمَّ تَرَكَ) إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَبْحَهُ (فَلَوْ) كَانَ تَرْكُهُ لَهُ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ (بِلَا نَسْخٍ) لِوُجُوبِهِ (عَصَى) بِتَرْكِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَعْصِ إجْمَاعًا فَتَعَيَّنَ أَنَّ تَرْكَهُ لَهُ كَانَ لِنَسْخِ وُجُوبِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ (وَأُجِيبَ بِمَنْعِ وُجُوبِ الذَّبْحِ) عَنْ أَمْرٍ لَهُ بِهِ (بَلْ) رَأَى (رُؤْيَا فَظَنَّهُ) أَيْ الْوُجُوبَ ثَابِتًا لَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: ١٠٢] فَنَسَبَهُ إلَى الْمَنَامِ (وَمَا تُؤْمَرُ) أَيْ وَقَوْلُ وَلَدِهِ لَهُ {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: ١٠٢] (يَدْفَعُهُ) أَيْ مَنْعَ وُجُوبِ الذَّبْحِ لِانْصِرَافِهِ ظَاهِرًا إلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute