للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا دَوْرٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ قُلْنَا مَمْنُوعٌ بَلْ إنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً قَطْعِيَّةً بِسَمْعِيٍّ قَاطِعٍ اقْتَضَى ذَلِكَ (وَذَلِكَ الِاتِّفَاقُ بِلَا اعْتِبَارِ حُجِّيَّتِهِ) أَيْ الِاتِّفَاقِ نَفْسِهِ (دَلِيلُهُ) أَيْ السَّمْعِيِّ الْقَاطِعِ يَعْنِي الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَقَعَ بِالْإِجْمَاعِ بِلَا اعْتِبَارِ حُجِّيَّتِهِ بَلْ بِمُجَرَّدِهِ وَأَثْبَتَ الْمَطْلُوبَ لِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَنْ سَمْعِيٍّ قَاطِعٍ فَالْمُثْبِتُ لِحُجِّيَّةِ أَنَّ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَاطِعَةً دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ قَاطِعٌ، عَرَفْنَا وُجُودَ ذَلِكَ الِاتِّفَاقِ الْكَائِنِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْبَالِغِينَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الْقَاطِعِ فَالْمُتَوَقِّفُ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ الْمُتَوَقَّفِ عَلَيْهِ (فَلَا دَوْرَ) وَهَذَا الْإِجْمَاعُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ (بِخِلَافِ إجْمَاعِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ؛ لِأَنَّهُ عَنْ) نَظَرٍ (عَقْلِيٍّ يُزَاحِمُهُ الْوَهْمُ) فَإِنَّ تَعَارُضَ الشَّبَهِ وَاشْتِبَاهَ الصَّحِيحِ بِالْفَاسِدِ فِيهِ كَثِيرٌ وَلَا كَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَإِنَّ الْفَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْقَاطِعِ وَالظَّنِّيِّ بَيِّنٌ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ فَضْلًا عَنْ الْمُحَقِّقِينَ الْمُجْتَهِدِينَ

(عَلَى أَنَّ التَّوَارِيخَ دَلَّتْ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِحُدُوثِهِ) أَيْ الْعَالَمِ (مِنْهُمْ) أَيْ الْفَلَاسِفَةِ فَلَا إجْمَاعَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا حَكَاهُ لَنَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِنْدَ قِرَاءَةِ هَذَا الْمَحَلِّ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَةٍ وُجِدَتْ بِحَجَرٍ فِي أَسَاسِ الْحَائِطِ الْجَيْرُونِيِّ مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْقِفْطِيُّ فِي كِتَابِهِ أَنْبَاءُ الرُّوَاةِ عَلَى أَبْنَاءِ النُّحَاةِ، وَلَا بَأْسَ بِسَوْقِهِ ذِكْرَ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الْعَلَاءِ الْمُقْرِي عَمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُ قُرِئَ بِحَضْرَتِهِ يَوْمًا أَنَّ الْوَلِيدَ لَمَّا تَقَدَّمَ بِعِمَارَةِ دِمَشْقَ أَمَرَ الْمُتَوَلِّينَ لِعِمَارَتِهِ أَنْ لَا يَضَعُوا حَائِطًا إلَّا عَلَى جَبَلٍ فَامْتَثَلُوا وَتَعَسَّرَ عَلَيْهِمْ وُجُودُ جَبَلٍ لِحَائِطٍ جِهَةَ جَيْرُونَ وَأَطَالُوا الْحَفْرَ امْتِثَالًا لِمَرْسُومِهِ فَوَجَدُوا رَأْسَ حَائِطٍ مَكِينِ الْعَمَلِ كَثِيرِ الْأَحْجَارِ يَدْخُلُ فِي عَمَلِهِمْ فَأَعْلَمُوا الْوَلِيدَ أَمْرَهُ وَقَالُوا نَجْعَلُ رَأْسَهُ أُسًّا فَقَالَ اُتْرُكُوهُ وَاحْفِرُوا قُدَّامَهُ لِتَنْظُرُوا أُسَّهُ وُضِعَ عَلَى حَجَرٍ أَمْ لَا فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَوَجَدُوا فِي الْحَائِطِ بَابًا وَعَلَيْهِ حَجَرٌ مَكْتُوبٌ بِقَلَمٍ مَجْهُولٍ فَأَزَالُوا عَنْهُ التُّرَابَ بِالْغَسْلِ وَنَزَّلُوا فِي حَفْرِهِ لَوْنًا مِنْ الْأَصْبَاغِ فَتَمَيَّزَتْ حُرُوفُهُ وَطَلَبُوا مَنْ يَقْرَؤُهَا فَلَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ وَتَطَلَّبَ الْوَلِيدُ الْمُتَرْجِمِينَ مِنْ الْآفَاقِ حَتَّى حَضَرَ مِنْهُمْ رَجُلٌ يَعْرِفُ قَلَمَ الْيُونَانِيَّةِ الْأُولَى فَقَرَأَ الْكِتَابَةَ الْمَوْجُودَةَ فَكَانَتْ: بِاسْمِ الْمُوجِدِ الْأَوَّلِ أَسْتَعِينُ لَمَّا أَنْ كَانَ الْعَالَمُ مُحْدَثًا لِاتِّصَالِ أَمَارَاتِ الْحُدُوثِ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُحْدِثٌ لَا كَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ ذُو السِّنِينَ وَذُو اللَّحْيَيْنِ وَأَشْيَاعُهُمَا، حِينَئِذٍ أَمَرَ بِعِمَارَةِ هَذَا الْهَيْكَلِ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ مُحِبَّ الْخَيْرِ عَلَى مُضِيِّ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَسَبْعِمِائَةِ عَامٍ لِأَهْلِ الْأُسْطُوَانِ فَإِنْ رَأَى الدَّاخِلُ إلَيْهِ ذِكْرَ بَانِيهِ عِنْدَ نَادِيهِ بِخَيْرٍ فَعَلَ وَالسَّلَامُ. فَأَطْرَقَ أَبُو الْعَلَاءِ عِنْدَ سَمَاعِ ذَلِكَ وَأَخَذَ الْجَمَاعَةُ فِي التَّعَجُّبِ مِنْ أَمْرِ هَذَا الْهَيْكَلِ وَأَمْرِ الْأُسْطُوَانِ الْمُؤَرَّخِ بِهِ وَفِي أَيِّ زَمَانٍ كَانَ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ رَفَعَ أَبُو الْعَلَاءِ رَأْسَهُ وَأَنْشَدَ فِي صُورَةِ مُتَعَجِّبٍ

سَيَسْأَلُ قَوْمٌ مَا الْحَجِيجُ وَمَكَّةُ ... كَمَا قَالَ قَوْمٌ مَا جُدَيْسُ وَمَا طسم

وَأَمَرَ بِتَسْطِيرِ الْحِكَايَةِ عَلَى ظَهْرِ جُزْءٍ مِنْ " اسْتَغْفِرْ وَاسْتَغْفِرِي " بِخَطِّ ابْنِ أَبِي هَاشِمٍ كَاتِبِهِ وَأَكْثَرُ مَنْ نَقَلَ الْكِتَابَ نَقَلَ الْحِكَايَةَ عَلَى مِثْلِ الْجُزْءِ الَّذِي هِيَ مَسْطُورَةٌ عَلَيْهِ انْتَهَى.

قُلْت وَقَدْ ذَكَرَهَا مُخْتَصَرَةً يَاقُوتُ الْحَمَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ لَكِنْ مَعَ زِيَادَةٍ بَيْنَ ذِي اللَّحْيَيْنِ وَبَيْنَ حِينَئِذٍ هِيَ فَوَجَبَتْ عِبَادَةُ خَالِقِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهِيَ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ وَبَدَلٌ عَلَى مُضِيِّ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَسَبْعِمِائَةِ عَامٍ عَلَى مُضِيِّ سَبْعَةِ آلَافٍ وَتِسْعِمِائَةِ عَامٍ وَأَفَادَ مِنْ أَهْلِ الْأُسْطُوَانِ قَوْمٌ مِنْ الْحُكَمَاءِ الْأُوَلِ كَانُوا بِبَعْلَبَكّ حَكَى ذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ الطَّبِيبِ السَّرَخْسِيُّ الْفَيْلَسُوفُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَإِجْمَاعُ الْيَهُودِ عَلَى نَفْيِ نَسْخِ شَرْعِهِمْ عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَ) إجْمَاعُ (النَّصَارَى عَلَى صَلْبِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) إنَّمَا هُوَ (لِاتِّبَاعِ الْآحَادِ الْأَصْلَ) لِاتِّبَاعِهِمْ فِي هَذَيْنِ الِافْتِرَاءَيْنِ لِآحَادِ أَوَائِلِهِمْ هُمْ أَهْلُ الطَّبَقَةِ الْأُولَى فِيهِمَا (لِعَدَمِ تَحْقِيقِهِمْ) إذْ لَوْ كَانُوا مُحَقِّقِينَ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ (بِخِلَافِ مَنْ ذَكَرْنَا) مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَإِنَّهُمْ مُحَقِّقُونَ غَيْرُ مُتَّبِعِينَ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ (لِأَنَّهُمْ الْأُصُولُ) وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْإِجْمَاعَاتِ نَقْضًا عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ حَاكِمَةٌ بِأَنَّ مِثْلَ الِاتِّفَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ قَاطِعٍ لِانْتِفَاءِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْأَوَّلِ وَالتَّحْقِيقِ فِي الْأَخِيرَيْنِ فَهَذَا دَلِيلٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>