للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غَيْرِ الْمُجْمَلِ عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعِهِ فَيُوَافِقُ الْأَقْسَامَ الْبَاقِيَةَ الَّتِي فِي دَلَالَتِهَا خَفَاءٌ فِي أَنَّ مَعْنَى الِاجْتِهَادِ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ بِهِ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي الْوُقُوفِ عَلَيْهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ.

ثُمَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ لَهَا أَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُلُّ هَذَا وَاضِحٌ لَدَيْهِ بِلَا اجْتِهَادٍ (وَ) فِي (التَّرْجِيحِ) لِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ (عِنْدَ التَّعَارُضِ) بَيْنَهُمَا (لِعَدَمِ عِلْمِ الْمُتَأَخِّرِ) أَيْ لِهَذَا السَّبَبِ، وَأَمَّا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذَا غَيْرُ مُتَأَتٍّ فِي حَقِّهِ لِانْتِفَاءِ تَحَقُّقِ التَّعَارُضِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَانْتِفَاءِ عُزُوبِ تَأَخُّرِ الْمُتَأَخِّرِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ عَنْ عِلْمِهِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ صُورَةِ التَّعَارُضِ (فَإِنْ أَقَرَّ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ عِنْدَ خَوْفِ الْحَادِثَةِ (أَوْجَبَ) إقْرَارُهُ عَلَيْهِ (الْقَطْعَ بِصِحَّتِهِ) أَيْ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ اجْتِهَادَهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ أَوْ أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الْخَطَأِ (فَلَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ) كَالنَّصِّ (بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ) فَإِنَّهُ يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ إلَى اجْتِهَادِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ وَالْقَرَارِ عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَيْ اجْتِهَادُهُ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ (وَحْيٌ بَاطِنٌ) عَلَى مَا عَلَيْهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقُوهُ وَسَمَّاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مَا يُشْبِهُ الْوَحْيَ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: فَإِنَّ مَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الطَّرِيقِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالْوَحْيِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ صَوَابًا لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُقَرُّ عَلَى الْخَطَأِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ حُجَّةً قَاطِعَةً.

(وَالْوَحْيُ عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقُوهُ (بَاطِنٌ هَذَا) الِاجْتِهَادُ الَّذِي أُقِرَّ عَلَيْهِ (وَظَاهِرٌ ثَلَاثَةٌ) مِنْ الْأَقْسَامِ (مَا يَسْمَعُهُ) النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مِنْ الْمَلَكِ شِفَاهًا) بَعْدَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُبَلِّغَ مَلَكٌ نَازِلٌ بِالْوَحْيِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْمُرَادُ بِرُوحِ الْقُدْسِ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: ١٠٢] وَبِالرُّوحِ الْأَمِينِ فِي قَوْله تَعَالَى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: ١٩٣] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: ١٩٤] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: ١٩٥] وَبِرَسُولٍ كَرِيمٍ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: ١٩] {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: ٢٠] {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: ٢١] بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ أَنَّهُ هُوَ وَهَذَا أَحَدُهَا (أَوْ) مَا (يُشِيرُ إلَيْهِ) الْمَلَكُ (إشَارَةً مُفْهِمَةً) لِلْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ بِالْكَلَامِ (وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (الْحَدِيثَ) أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَلِلْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ أُخَرُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْهَا مَا عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا النَّاسَ فَقَالَ: هَلُمُّوا إلَيَّ فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ فَجَلَسُوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إلَّا بِطَاعَتِهِ» رَوَاهُ الْبَزَّارُ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا قَدَامَةَ بْنَ زَائِدَةَ بْنِ قَدَامَةَ فَإِنَّهُ لَا يَحْضُرُنِي فِيهِ جَرْحٌ وَلَا تَعْدِيلٌ وَنَفَثَ بِالْمُثَلَّثَةِ فِي رُوعِي بِضَمِّ الرَّاءِ أَلْقَى فِي قَلْبِي وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ أَيْ لِلرِّزْقِ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ أَوْ تَرْكِ الْمُبَالَغَةِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْحِرْصِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ الرِّزْقَ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ الْكَسْبِ وَهَذَا ثَانِيًا. (أَوْ) مَا (يُلْهَمُهُ، وَهُوَ) أَيْ الْإِلْهَامُ (إلْقَاءُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ بِلَا وَاسِطَةِ عِبَارَةِ الْمَلَكِ وَإِشَارَتِهِ مَقْرُونٌ بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ أَنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ الْمَعْنَى (مِنْهُ تَعَالَى جَعَلَهُ وَحْيًا ظَاهِرًا) وَهَذَا ثَالِثُهَا، وَلَمَّا كَانَ مِمَّا يَتَبَادَرُ أَنَّ هَذَا بَاطِنٌ أَشَارَ إلَى نَفْيِهِ بِتَوْجِيهِ كَوْنِهِ ظَاهِرًا بِقَوْلِهِ (إذْ فِي الْمَلَكِ) أَيْ مُشَافَهَتِهِ (لَا بُدَّ مِنْ خَلْقِ) الْعِلْمِ (الضَّرُورِيِّ أَنَّهُ) أَيْ الْمُخَاطَبُ (هُوَ) أَيْ الْمَلَكُ فَلَمْ يُخَالِفْهُ إلَّا بِعَدَمِ مُشَافَتِهِ وَإِشَارَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ عَدَّهُ ظَاهِرًا

(وَلِذَا) أَيْ كَوْنِ الْإِلْهَامِ وَحْيًا (كَانَ حُجَّةً قَطْعِيَّةً) (عَلَيْهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَعَلَى غَيْرِهِ بِخِلَافِ إلْهَامِ غَيْرِهِ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ فِيهِ أَقْوَالًا أَحَدُهَا حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا فِي الْمِيزَانِ مَعْزُوٌّ إلَى قَوْمٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ بَلْ عُزِيَ فِيهِ إلَى صِنْفٍ مِنْ الرَّافِضَةِ لُقِّبُوا بِالْجَعْفَرِيَّةِ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ سِوَاهُ.

ثَانِيهَا: حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ وَهَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمِيزَانِ أَيْ

<<  <  ج: ص:  >  >>