للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْمُلْهَمِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ إلَيْهِ، وَعَزَاهُ فِيهِ إلَى عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَمَشَى عَلَيْهِ الْإِمَامُ السُّهْرَوَرْدِيُّ وَاعْتَمَدَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ: وَمِنْ عَلَامَتِهِ أَنْ يَنْشَرِحَ لَهُ الصَّدْرُ وَلَا يُعَارِضُهُ مُعَارِضٌ مِنْ خَاطِرٍ آخَرَ (ثَالِثُهَا الْمُخْتَارُ فِيهِ) أَيْ إلْهَامُ غَيْرِهِ أَنَّهُ (لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ وَلَا) عَلَى (غَيْرِهِ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ نِسْبَتَهُ) أَيْ الْمُلْهَمِ بِهِ (إلَيْهِ تَعَالَى) هَذَا وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ جَعَلَ الْوَحْيَ الظَّاهِرَ قِسْمَيْنِ مَا ثَبَتَ بِلِسَانِ الْمَلَكِ، وَمَا ثَبَتَ بِإِشَارَتِهِ وَجَعَلَ الْبَاطِنَ مَا ثَبَتَ بِالْإِلْهَامِ قَالَ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ الْأَتْقَانِيُّ: وَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ فِي الْقَلْبِ بِالْإِلْهَامِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ بَلْ هُوَ بَاطِنٌ، وَقَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ بِالْبَاطِنِ مَا يُنَالُ الْمَقْصُودُ بِهِ بِالتَّأَمُّلِ فِي الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ وَبِالظَّاهِرِ مَا يُنَالُ الْمَقْصُودُ بِهِ لَا بِالتَّأَمُّلِ فِيهَا وَحِينَئِذٍ مَا قَالَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَوْجَهُ.

قُلْت: وَيَبْقَى عَلَيْهِمَا التَّكْلِيمُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ مِنْ الْوَحْيِ الظَّاهِرِ وَرُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ»

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مِنْ الْبَاطِنِ وَلَمْ يَتَعَارَضَا لَهُمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ثُمَّ شَرَعَ فِي قِسْمِ الْمُخْتَارِ فَقَالَ: (وَالْأَكْثَرُ) أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْمُورٌ (بِالِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا) وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ تَقْدِيرَ مَأْمُورٍ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سَوْقُ الْكَلَامِ وَفِي شَرْحِ الْبَدِيعِ لِسِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ وَقِيلَ بِالْجَوَازِ أَيْ بِجَوَازِ كَوْنِهِ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحُرُوبِ وَالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ انْتَهَى وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْأَكْثَرِ هَؤُلَاءِ إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ حَمَلَ الْجَوَازَ عَلَى كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ مُوَافَقَةً فِي الْمَعْنَى لِمِثْلِ مَا فِي مُنْتَهَى السُّولِ لِلْآمِدِيِّ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ إلَى أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ انْتَهَى.

وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ مَحِلَّ النِّزَاعِ إنَّمَا هُوَ إيجَابُهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْجَوَازِ دُونَ الْوُجُوبِ كَمَا سَيُصَرَّحُ بِهِ لَكِنَّ قَوْلَ الْآمِدِيِّ بَعِيدٌ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي رِسَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ انْتَهَى ظَاهِرٌ فِي مُخَالَفَةِ هَذَا ذَاكَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا مُجَرَّدُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ كَمَا سَيَذْكُرُهُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَيْضًا، وَفِي الْمُعْتَمَدِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ إنْ أُرِيدَ بِاجْتِهَادِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِدْلَال بِالنُّصُوصِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ قَطْعًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِدْلَال بِالْأَمَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَتْ أَمَارَاتٍ مُسْتَنْبَطَةً يُجْمَعُ بِهَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُتَعَبَّدُ بِهِ وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ فِي وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ بَعْدَ جَوَازِهِ لَهُ وَجْهَيْنِ وَصَحَّحَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْوُجُوبَ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي التَّفْصِيلُ بَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى حُقُوقِهِمْ إلَّا بِاجْتِهَادٍ، وَلَا يَجِبُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ انْتَهَى، وَهَذَا صَرِيحٌ أَيْضًا فِي أَنَّهُ ثَمَّ مَنْ يَقُولُ بِالْجَوَازِ دُونَ الْوُجُوبِ.

(وَقِيلَ) أَيْ وَقَالَ الْأَشَاعِرَةُ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ: (لَا) يَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ حَظَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ عَقْلًا، وَهُوَ عَنْ الْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ وَبَعْضِهِمْ جَائِزٌ عَلَيْهِ عَقْلًا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُتَعَبَّدْ بِهِ شَرْعًا ذَكَرَهُ فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ كَانَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالْحُرُوبِ دُونَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ حَكَاهُ فِي شَرْحِ الْبَدِيعِ (وَقِيلَ) كَانَ لَهُ الِاجْتِهَادُ (فِي الْحُرُوبِ فَقَطْ) ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الْقَاضِي وَالْجُبَّائِيِّ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: ٤٣] فَعُوتِبَ عَلَى الْإِذْنِ لَمَّا ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَلَا يَكُونُ الْعِتَابُ فِيمَا صَدَرَ عَنْ وَحْيٍ فَيَكُونُ عَنْ اجْتِهَادٍ لِامْتِنَاعِ الْإِذْنِ مِنْهُ تَشَهِّيًا وَدَفَعَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ قَالَ: إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْإِذْنِ وَعَدَمِهِ فَمَا ارْتَكَبَ إلَّا صَوَابًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ

<<  <  ج: ص:  >  >>