للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: ٦٢] فَلَمَّا أَذِنَ لَهُمْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مِنْ شَرِّهِمْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَقَعَدُوا وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِيمَا فَعَلَ وَلَا خَطَأَ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمَنْ قَالَ الْعَفْوُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ ذَنْبٍ فَهُوَ غَيْرُ عَارِفٍ بِكَلَامِ الْعَرَبِ وَإِنَّمَا مَعْنَى عَفَا اللَّهُ عَنْك لَمْ يُلْزِمْك ذَنْبًا كَمَا فِي عَفَا عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ قَطُّ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَلِقَائِلٍ أَنَّهُ عِتَابٌ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وَلَكِنْ لَا يَعْرَى عَنْ بَحْثٍ (وَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: ٦٨] فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي فِدَاءِ أُسَارَى بَدْرٍ

فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: قُلْت لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ وَتُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبًا لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهُ فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْت فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْت فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُك فَإِنْ وَجَدْت بُكَاءً بَكَيْت وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْت لِبُكَائِكُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْكِي الَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُك مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: ٦٧] إلَى قَوْلِهِ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: ٦٩] فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ» . قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ أَيْ لَوْلَا حُكْمٌ سَبَقَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ أَحَدٌ بِالْخَطَأِ، وَكَانَ هَذَا خَطَأً فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي أَنَّ اسْتِبْقَاءَهُمْ كَانَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ وَأَنَّ فِدَاءَهُمْ يُتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ أَنَّ قَتْلَهُمْ أَعَزُّ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْيَبُ لِمَنْ وَرَاءَهُمْ وَأَقَلُّ لِشَوْكَتِهِمْ، وَقَدْ رَدَّ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ هَذَا فَقَالَ فِي التَّقْوِيمِ: فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ عَاتَبَ رَسُولَهُ عَلَى الْفِدَاءِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ نَزَلَ الْعَذَابُ مَا نَجَا إلَّا عُمَرُ» فَدَلَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مُخْطِئًا قُلْنَا: هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمِلَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أُقِرَّ عَلَيْهِ صَوَابًا وَاَللَّهُ تَعَالَى قَرَّرَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: ٦٩] وَتَأْوِيلُ الْعِتَابِ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: ٦٧] وَكَانَ لَك كَرَامَةً خُصِّصْت بِهَا رُخْصَةً لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ لِحُكْمِ الْعَزِيمَةِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى قَبْلَ الْإِثْخَانِ، وَقَدْ أَثْخَنْت يَوْمَ بَدْرٍ فَكَانَ لَك الْأَسْرَى كَمَا كَانَ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَلَكِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْأَسْرَى الْمَنُّ أَوْ الْقَتْلُ دُونَ الْمُفَادَاةِ فَلَوْلَا الْكِتَابُ السَّابِقُ فِي إبَاحَةِ الْفِدَاءِ لَك لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ.

وَالْمُلَخَّصُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْكَرْمَانِيُّ بَحْثًا، وَهُوَ أَنَّهُ أَيْضًا تَرَكَ الْأَوْلَى، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ فِيهِ خَطَأٌ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالنَّقْضِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ ذَنْبٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ فِيهِ بَيَانُ مَا خُصَّ بِهِ وَفُضِّلَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ هَذَا النَّبِيُّ غَيْرَك وَتُرِيدُونَ الْخِطَابَ فِيهِ لِمَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُرِيدِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِصْمَتِهِ ثُمَّ الْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ الْعَمَلُ بِرَأْيِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ فَبِرَأْيِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى عَلَى أَنَّ فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ، وَكُلُّهُمْ اتَّفَقُوا أَنَّ الْعَمَلَ يَجُوزُ لَهُ بِالرَّأْيِ فِي الْحُرُوبِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا (وَقَدْ قُلْنَا بِهِ) أَيْ بِوُجُوبِ اجْتِهَادِهِ فِي الْحُرُوبِ مُسْتَدِلِّينَ بِمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ الْآيَتَيْنِ وَبِوُجُوبِ اجْتِهَادِهِ فِي الْأَحْكَامِ أَيْضًا بِآيَةِ مُفَادَاةِ الْأُسَارَى فَإِنَّ جَوَازَ مُفَادَاتِهِمْ وَفَسَادَهَا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ.

(وَثَبَتَ) اجْتِهَادُهُ (فِي الْأَحْكَامِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ» ) ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>