للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِلَفْظِ «لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ «مَا أَهْدَيْت، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْت» وَذَلِكَ حِينَ أَذِنَ لِمَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي حَجَّتِهِمْ مَعَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً يَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا؛ لِأَنَّ السَّوْقَ مَانِعٌ مِنْ التَّحَلُّلِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (وَسَوْقُهُ) أَيْ الْهَدْيِ (مُتَعَلَّقُ حُكْمِ الْمَنْدُوبِ) فَهُوَ مَنْدُوبٌ (وَهُوَ) أَيْ النَّدْبُ (حُكْمٌ شَرْعِيٌّ) ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَنْ وَحْيٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَا بِالتَّشَهِّي لِامْتِنَاعِهِ عَلَيْهِ فَكَانَ بِالِاجْتِهَادِ قُلْت: وَمِمَّا هُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْمَطْلُوبِ أَيْضًا مَا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «جَاءَ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قَدْ دَرَسَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِرَأْيِي فِيمَا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهِ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى عُنُقِهِ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ إلَّا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ صَدُوقٌ فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ اسْتِشْهَادًا (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الِاجْتِهَادَ (مَنْصِبٌ شَرِيفٌ) حَتَّى قِيلَ: إنَّهُ أَفْضَلُ دَرَجَاتِ الْعِلْمِ لِلْعِبَادِ فَإِذَنْ (لَا يُحَرِّمُهُ) أَفْضَلُ الْخَلْقِ (وَتَنَالُهُ أُمَّتُهُ وَلَأَكْثَرِيَّةُ الثَّوَابِ لِأَكْثَرِيَّةِ الْمَشَقَّةِ) كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ جَوَازِ النَّسْخِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ «قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ فِي الْعُمْرَةِ فَاخْرُجِي إلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي ثُمَّ آتِينَا بِمَكَانِ كَذَا وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِك أَوْ نَصَبِك» وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ «إنَّ لَك مِنْ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِك وَنَفَقَتِك» فَإِنَّ ظَاهِرَهُ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ أَنَّ الثَّوَابَ وَالْفَضْلَ فِي الْعِبَادَةِ يَكْثُرُ بِكَثْرَةِ النَّصَبِ وَالنَّفَقَةِ، وَالْمُرَادُ النَّصَبُ الَّذِي لَا يَذُمُّهُ الشَّرْعُ وَكَذَا النَّفَقَةُ وَفِي الِاجْتِهَادِ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا لَيْسَ فِي الْعَمَلِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِظُهُورِهِ لَكِنْ هَذَا مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ مُطْلَقًا إذْ قَدْ يَفْضُلُ بَعْضُ الْعِبَادَاتِ الْخَفِيفَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَشَقُّ فِي صُوَرٍ فَالْإِيمَانُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مَعَ سُهُولَتِهِ وَخِفَّتِهِ عَلَى اللِّسَانِ.

وَفَرْضُ الصُّبْحِ أَفْضَلُ مِنْ أَعْدَادٍ مِنْ الرَّكَعَاتِ النَّافِلَةِ، وَدِرْهَمٌ مِنْ الزَّكَاةِ أَفْضَلُ مِنْ دَرَاهِمَ مِنْ الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ، وَفَرِيضَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ فَرَائِضَ فِي غَيْرِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (وَأَمَّا الْجَوَابُ) عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَقَرَّرَهُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ (بِأَنَّ السُّقُوطَ) لِلِاجْتِهَادِ (لِلدَّرَجَةِ الْعُلْيَا) وَهِيَ الْوَحْيُ فَإِنَّ مُتَعَلَّقَهُ أَعْلَى مِنْ مُتَعَلَّقِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالْوَحْيِ مَقْطُوعٌ بِهِ بِخِلَافِهِ بِالِاجْتِهَادِ فَسُقُوطُهُ (لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي قَدْرِهِ وَأَجْرِهِ وَلَا اخْتِصَاصِ غَيْرِهِ بِفَضِيلَةٍ لَيْسَتْ لَهُ فَقِيلَ) كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ التَّفْتَازَانِيُّ (ذَلِكَ) أَيْ سُقُوطُ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى ثُمَّ لَا يَكُونُ فِيهِ نَقْصٌ آخَرُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْأَدْنَى وَلَا اخْتِصَاصُ الْمُتَّصِفِ بِهِ بِفَضِيلَةٍ لَيْسَتْ لِمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ إنَّمَا هُوَ (عِنْدَ الْمُنَافَاةِ) بَيْنَ الْأَدْنَى وَالْأَعْلَى بِحَيْثُ لَا يَجْتَمِعَانِ (كَالشَّهَادَةِ مَعَ الْقَضَاءِ وَالتَّقْلِيدِ مَعَ الِاجْتِهَادِ) أَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا فَلَا يَسْقُطُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى، وَالْوَحْيُ مَعَ الِاجْتِهَادِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا يُحَرِّمُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(وَالْحَقُّ أَنَّ مَا سِوَى هَذَا) الدَّلِيلِ الْمَعْنَوِيِّ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُثْبِتِينَ (لَا يُفِيدُ مَحِلَّ النِّزَاعِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ) لِلِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ (وَأَمَّا هَذَا) الدَّلِيلُ فَفِي التَّحْقِيقِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ أَيْضًا (فَقَدْ اقْتَضَتْ رُتْبَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً سُقُوطَ) حُرْمَةِ (مَا) يَحْرُمُ (عَلَى غَيْرِهِ) مِنْ أُمَّتِهِ (كَحُرْمَةِ الزِّيَادَةِ) مِنْ الزَّوْجَاتِ (عَلَى الْأَرْبَعِ وَمَرَّةً لُزُومَ مَا لَيْسَ) بِلَازِمٍ (عَلَيْهِمْ) كَمُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ وَإِنْ زَادَ عَدَدُهُمْ بِخِلَافِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُمْ الثَّبَاتُ إذَا لَمْ يَزِدْ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى الضِّعْفِ، وَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ وَتَغْيِيرُهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ بِالْعِصْمَةِ وَالْحِفْظِ، وَغَيْرُهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَالسُّؤَالِ عَلَى مَا صُحِّحَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَالشَّأْنُ فِي تَحْقِيقِ خُصُوصِيَّةِ الْمُقْتَضَى فِي حَقِّهِ فِي الْمَوَادِّ وَعَدَمِهِ) أَيْ تَحْقِيقِ خُصُوصِيَّتِهِ فِي حَقِّهِ فِيهَا (وَغَايَةُ مَا يُمْكِنُ) فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (أَنَّهَا) أَيْ أَدِلَّةَ الْمُثْبِتِينَ (لِدَفْعِ الْمَنْعِ) لِوُجُوبِ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا انْدَفَعَ مَنْعُ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ (فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ إذْ لَا قَائِلَ بِالْجَوَازِ دُونَهُ) أَيْ الْوُجُوبِ وَلَكِنْ قَدْ عَرَفْت مَا عَلَى هَذَا مِنْ التَّعَقُّبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>