للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاحْتَجَّ (الْمَانِعُ) لِتَعَبُّدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاجْتِهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ} [النجم: ٣ - ٤] أَيْ مَا يَنْطِقُ بِهِ {إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٤] إذْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ أَيْ كُلُّ مَا يَنْطِقُ بِهِ فَهُوَ عَنْ وَحْيٍ فَيَنْتَفِي الِاجْتِهَادُ (أُجِيبَ بِتَخْصِيصِهِ) أَيْ هَذَا النَّصَّ (بِسَبَبِهِ) فَإِنَّهُ نَزَلَ (لِنَفْيِ دَعْوَاهُمْ) أَيْ الْكُفَّارِ (افْتِرَاءَهُ) الْقُرْآنِ وَحِينَئِذٍ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إنْ هُوَ الْقُرْآنُ فَيَنْتَفِي الْعُمُومُ (سَلَّمْنَا عُمُومَهُ) فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لَا يُوجِبُ خُصُوصَ الْحُكْمِ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا مَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِمَا يَبْلُغُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْقُرْآنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: ٣] يُنَافِي جَوَازَ اجْتِهَادِهِ (فَالْقَوْلُ عَنْ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ عَنْ الْهَوَى بَلْ عَنْ الْأَمْرِ بِهِ) أَيْ بِالِاجْتِهَادِ وَحْيًا فَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ وَمَا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ وَحْيًا.

(وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَهُوَ) أَيْ الظَّاهِرُ (أَنَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ نَفْسُ مَا يُوحَى إلَيْهِ) وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى هَذَا إنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ لَا وَحْيٌ (يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ لِلدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ) أَيْ الدَّالِّ عَلَى وُقُوعِ الِاجْتِهَادِ مِنْ نَحْوِ {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة: ٤٣] وَ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: ٦٧] الْآيَتَيْنِ (وَلَا يَحْتَاجُهُ) أَيْ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَمْلِ الْمَذْكُورِ (الْحَنَفِيَّةُ إذْ هُوَ) أَيْ اجْتِهَادُهُ (وَحْيٌ بَاطِنٌ) إذْ أُقِرَّ عَلَيْهِ عِنْدَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقِيهِ وَبِمَنْزِلَةِ الْوَحْيِ عِنْدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ (قَالُوا) أَيْ مَانِعُو تَعَبُّدِهِ بِالِاجْتِهَادِ ثَانِيًا: (لَوْ جَازَ) لَهُ الِاجْتِهَادُ (جَازَتْ مُخَالَفَتُهُ) أَيْ اجْتِهَادِهِ لِلْمُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُخَالَفَةِ مِنْ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ إذْ يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ مُخَالَفَةُ الْمُجْتَهِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَطْعَ بِأَنَّ الْحُكْمَ الصَّادِرَ مِنْ الِاجْتِهَادِ حُكْمُ اللَّهِ لِاحْتِمَالِ الْإِصَابَةِ، وَالْخَطَأِ، وَالْجَوَابُ مَنْعُ لُزُومِ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ لَهُ مُطْلَقًا بَلْ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَمْنَعُ مُخَالَفَتَهُ مَنْ قَطَعَ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَةُ اجْتِهَادٍ صَارَ سَنَدًا لِلْإِجْمَاعِ وَهَذَا اُقْتُرِنَ بِهِ مَا يَمْنَعُ مُخَالَفَتَهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَتَقَدَّمَ) فِي أَوَائِلِ الْمَسْأَلَةِ (مَا يَدْفَعُهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ: فَإِنْ أُقِرَّ وَجَبَ الْقَطْعُ بِصِحَّتِهِ فَلَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ وَيَأْتِي أَيْضًا

(قَالُوا) أَيْ الْمَانِعُونَ الْمَذْكُورُونَ ثَالِثًا (لَوْ أَمَرَ) النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِهِ) أَيْ بِالِاجْتِهَادِ (لَمْ يُؤَخِّرْ جَوَابًا) عَنْ سُؤَالٍ بَلْ يَجْتَهِدُ وَيُجِيبُ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ (وَكَثِيرًا مَا أَخَّرَ) جَوَابَ كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ كَحُكْمِ الظِّهَارِ وَقَذْفِ الزَّوْجَةِ بِالزِّنَا وَمَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ الْحَسَنُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَيُّ الْبِلَادِ شَرٌّ قَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ فَسَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّي. فَانْطَلَقَ فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: إنِّي سَأَلْت رَبِّي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: شَرُّ الْبِلَادِ الْأَسْوَاقُ» (الْجَوَابُ جَازَ) التَّأْخِيرُ (لِاشْتِرَاطِ الِانْتِظَارِ) لِلْوَحْيِ مَا كَانَ رَاجِيَهُ إلَى خَوْفِ الْحَادِثَةِ (كَالْحَنَفِيَّةِ أَوْ لِاسْتِدْعَائِهِ) أَيْ الِاجْتِهَادِ (زَمَانًا) فَإِنَّ اسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ يَسْتَدْعِي زَمَانًا أَوْ لِكَوْنِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ مِمَّا لَا مَسَاغَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ.

(قَالُوا) أَيْ الْمَانِعُونَ الْمَذْكُورُونَ: رَابِعًا هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْيَقِينِ فِي الْحُكْمِ بِالْوَحْيِ، وَالْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ لَا يُفِيدُ إلَّا ظَنًّا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ (لَا يَجُوزُ الظَّنُّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْيَقِينِ) إجْمَاعًا، وَمِنْ ثَمَّةَ حَرُمَ عَلَى مُعَايِنِ الْقِبْلَةِ الِاجْتِهَادُ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ (أُجِيبَ بِالْمَنْعِ) أَيْ مَنْعِ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْيَقِينِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (فَإِنْ) كَانَ هَذَا الْمَنْعُ (بِمَعْنَى أَنَّهُ) أَيْ الْيَقِينَ، وَهُوَ الْوَحْيُ هُنَا (غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ فَصَحِيحٌ) إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى وُصُولِ الْوَحْيِ إلَيْهِ (لَكِنَّهُ) ، وَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ أَيْ هَذَا الْمَنْعُ بِهَذَا الْمَعْنَى (لَا يُوجِبُ النَّفْيَ) لِتَعَبُّدِهِ بِالِاجْتِهَادِ (بَلْ) إنَّمَا يُوجِبُ (أَنْ لَا يَجْتَهِدَ إلَى الْيَأْسِ مِنْ الْوَحْيِ أَوْ) إلَى (غَلَبَةِ ظَنِّهِ) أَيْ الْيَأْسِ مِنْ الْوَحْيِ (مَعَ خَوْفِ الْفَوْتِ) لِلْحَادِثَةِ بِلَا حُكْمٍ (وَهُوَ) أَيْ وَهَذَا (قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ كُلٌّ مِنْ طَرِيقَيْ الظَّنِّ، وَالْيَقِينِ) بِالْحُكْمِ (مُمْكِنٌ فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الثَّانِي) أَيْ الْيَقِينِ (بِالِانْتِظَارِ) لِلْوَحْيِ (فَإِذَا غَلَبَ ظَنُّ عَدَمِهِ) أَيْ الْوَحْيِ (وُجِدَ شَرْطُ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ) أَيْ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ (الْمُخْتَارُ) وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ شَأْنِهِ الِانْتِظَارُ لِلْوَحْيِ فِيمَا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ أُوحِيَ إلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ قِيلَ مَا بَرَكَاتُ الْأَرْضِ قَالَ زَهْرَةُ الدُّنْيَا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ هَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَصَمَتَ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَيْهِ ثُمَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>