جَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ جَبِينِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «فَأَفَاقَ يَمْسَحُ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، وَهُوَ الْعَرَقُ وَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ قَالَ: هَا أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إلَّا بِالْخَيْرِ» الْحَدِيثَ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أُوحِيَ إلَيْهِ يَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ مِنْ شِدَّةِ الْوَحْيِ وَثِقَلِهِ عَلَيْهِ (وَإِنْ) كَانَ هَذَا الْمَنْعُ (بِمَعْنَى جَوَازِ تَرْكِهِ) أَيْ الْيَقِينِ (مَعَ الْقُدْرَةِ) عَلَيْهِ (إلَى مُحْتَمِلِ الْخَطَأِ مُخْتَارًا فَيَمْنَعُهُ) أَيْ جَوَازُ تَرْكِ الْيَقِينِ إلَى مُحْتَمِلِ الْخَطَأِ (الْعَقْلُ وَمَا أَوْهَمَهُ) أَيْ جَوَازُهُ (سَيَأْتِي جَوَابُهُ) غَيْرَ أَنَّ هَذَا الشِّقَّ لَا يَحْتَمِلُهُ مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْيَقِينِ الَّذِي هُوَ مَحِلُّ التَّرْدِيدِ اللَّهُمَّ إلَّا فَرْضًا وَلَا دَاعِيَ إلَيْهِ (وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ الْمُخْتَارِ جَوَازًا لِخَطَأٍ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) أَيْ عَلَى اجْتِهَادِهِ (إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْخَطَأِ (بِخِلَافِ غَيْرِهِ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَاخْتَارَهُ هُوَ وَابْنُ الْحَاجِبِ (وَقِيلَ بِامْتِنَاعِهِ) أَيْ جَوَازِ الْخَطَأِ عَلَى اجْتِهَادِهِ نَقَلَهُ فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ الْحَقُّ وَجَزَمَ بِهِ الْحَلِيمِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْأُمِّ (لِأَنَّهُ) أَيْ اجْتِهَادُهُ (أَوْلَى بِالْعِصْمَةِ عَنْ الْخَطَأِ مِنْ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ) أَيْ الْإِجْمَاعِ عَنْ الْخَطَإِ (لِنِسْبَتِهِ) أَيْ الْإِجْمَاعِ بِوَاسِطَةِ الْأُمَّةِ (إلَيْهِ) أَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَلِلُزُومِ جَوَازِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَإِ) ؛ لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: ٣١] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (وَ) لُزُومُ (الشَّكِّ فِي قَوْلِهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَوَابٌ هُوَ أَمْ خَطَأٌ (فَيُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْبَعْثَةِ) ، وَهُوَ الْوُثُوقُ بِمَا يَقُولُ: إنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ (أُجِيبَ عَنْ هَذَا) الْأَخِيرِ (بِأَنَّ الْمُخِلَّ مَا فِي الرِّسَالَةِ) أَيْ جَوَازُ الْخَطَإِ فِيمَا يَنْقُلُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إرْسَالِهِ، وَهُوَ مَعْلُومُ الِانْتِفَاءِ بِدَلَالَةِ تَصْدِيقِ الْمُعْجِزَةِ لَا تَجْوِيزِ الْخَطَإِ فِي اجْتِهَادِهِ (وَ) أُجِيبَ (عَمَّا قَبْلَهُ) ، وَهُوَ لُزُومُ جَوَازِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَإِ (بِمَنْعِ بُطْلَانِهِ) بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ الْعَوَامّ لِلْمُجْتَهِدِينَ مِنَّا مَعَ جَوَازِ تَقْرِيرِهِمْ عَلَى الْخَطَإِ فَضْلًا عَنْ خَطَئِهِمْ فِيهِ وَتَعَقَّبَ الْفَاضِلُ الْكَرْمَانِيُّ هَذَا النَّقْضَ بِأَنَّهُ غَيْرُ وَارِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ إيقَاعُ الْفِعْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ، وَالْعَامِّيُّ لَا يَتْبَعُ الْمُجْتَهِدَ فِي اجْتِهَادِهِ بَلْ يُقَلِّدُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ صُورَةِ النَّقْضِ وَمَا لَزِمَ مِنْ الدَّلِيلِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِاتِّبَاعِهِ قَادِرٌ عَلَى الْإِصَابَةِ كَالْمُجْتَهِدِ وَلَا كَذَلِكَ الْعَامِّيُّ، وَإِذَنْ لَمْ يُؤْمَرْ أَحَدٌ بِالْخَطَأِ، وَإِنَّمَا الْعَامِّيُّ مَأْمُورٌ بِالتَّقْلِيدِ، وَالْخَطَأُ وَاقِعٌ فِي طَرِيقِهِ.
قَالَ الْفَاضِلُ الْأَبْهَرِيُّ: وَالْأَوَّلُ مَدْفُوعٌ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ فِي تَعْرِيفِ الْمُتَابَعَةِ جِهَةٌ لِلْفِعْلِ وَكَيْفِيَّةٌ لَهُ، وَالِاجْتِهَادُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ كَيْفِيَّةٌ لِلْمُجْتَهِدِ، وَالْفَاعِلِ فَتَعْرِيفُهُ الْمُتَابَعَةَ لَا يَقْتَضِي الِاتِّبَاعَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاقْتِضَاءِ اتِّبَاعُ الِاجْتِهَادِ مَخْصُوصٌ مِنْ الْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ إجْمَاعًا سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ بِاتِّبَاعِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمِنْهَاجِ كَوْنَهُ مَخْصُوصًا فِي بَيَانِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَكَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ مَأْمُورُونَ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُجْتَهِدُهُمْ وَمُقَلِّدُهُمْ فَلَا فَرْقَ. وَأَيْضًا مَقْدُورُ الْمُجْتَهِدِ تَحْصِيلُ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ لَا الْإِصَابَةُ فِيهِ وَإِذَا جَازَ كَوْنُ اجْتِهَادِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَأً فَاجْتِهَادُ غَيْرِهِ أَوْلَى بِجَوَازِ كَوْنِهِ خَطَأً وَكَذَا الثَّالِثُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالِاتِّبَاعِ أَمْرٌ بِاتِّبَاعِ الْفِعْلِ كَمَا ذَكَرَهُ، وَإِذَا كَانَ إيقَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ خَطَأً كَانَ الْعَامِّيُّ مَأْمُورًا بِالْخَطَأِ هَذَا وَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْحُكْمَ الْخَطَأَ لَهُ جِهَتَانِ كَوْنُهُ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ وَكَوْنُهُ مُجْتَهِدًا فِيهِ فَالْأَمْرُ فِيهِ لِلْجِهَةِ الثَّانِيَةِ لَا الْأُولَى وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَلَا بُعْدَ فِي أَمْرِ غَيْرِهِ أَيْضًا بِالْعَمَلِ بِهِ لِذَلِكَ، وَإِلَى مُلَخَّصِ هَذَا يُشِيرُ قَوْلُهُ (عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِهِ) أَيْ الِاجْتِهَادِ إنَّمَا هُوَ (مِنْ حَيْثُ هُوَ) أَيْ الْحُكْمُ الِاجْتِهَادِيُّ (صَوَابٌ فِي نَظَرِ الْعَالِمِ وَإِنْ خَالَفَ نَفْسَ الْأَمْرِ) ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي هُوَ صَوَابٌ عَمَلًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُخَطِّئَةِ أَوْ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُصَوِّبَةِ وَلَا بَأْسَ (وَ) أُجِيبَ (عَنْ الْأَوَّلِ) ، وَهُوَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْإِجْمَاعِ (بِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِرُتْبَةِ النُّبُوَّةِ وَإِنَّ رُتْبَةَ الْعِصْمَةِ لِلْأُمَّةِ لِاتِّبَاعِهِمْ) لَهُ (لَا يَقْتَضِي لُزُومَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute