وفي ندائهم بقولهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا تحريض لهم على الإيمان، لأن اعطاءهم علم الكتاب من شأنه أن يحملهم على المسارعة إلى تلبية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وألا تأخذهم العصبية الدينية كما أخذت أهل مكة العصبية الجاهلية، ولأن هذا الإيمان الذي يدعون إليه هو التصديق بما أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن، إذ هو يطابق- في جوهره- ما أنزله- سبحانه- على الأنبياء السابقين الذين يزعم أهل الكتاب أنهم يؤمنون بهم. إذا فوحدة المنزل توجب عليهم أن يؤمنوا بجميع ما أنزله الله.
ووصفهم هنا بأنهم أوتوا الكتاب، مع أنه وصفهم قبل ذلك بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، لأن وصفهم هنا بذلك المقصود منه حضهم على الإيمان وترغيبهم فيه وإثارة هممهم للانقياد لتعاليم كتابهم الذي بشرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالإيمان به. أما وصفهم فيما سبق بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب فالمقصود منه التعجيب من أحوالهم، والتهوين من شأنهم.
والمعنى: يا معشر اليهود الذين آتاهم الله التوراة لتكون هداية لهم، آمنوا ايمانا حقا بِما نَزَّلْنا من قرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فإن هذا القرآن قد نزل مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وموافقا للتوراة التي بين أيديكم في الدعوة إلى وحدانية الله- تعالى- وإلى مكارم الأخلاق، وفي النهى عن الفواحش والمعاصي، ومؤيدا لها فيما ذكرته من صفات تتعلق بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن آيات تدعو إلى تصديقه والإيمان به.
وعبر عن القرآن بقوله: بِما نَزَّلْنا لأن في هذا التعبير تذكير بعظم شأن القرآن وأنه منزل بأمر الله وحفظه.
وعبر عن التوراة بقوله لِما مَعَكُمْ لأن في هذا التعبير تسجيلا عليهم بأن التوراة كتاب مستصحب عندهم وقريب من أيديهم، وشهادته بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة جلية، فإذا ما تركوا شهادته مع وضوحها ومع استصحابهم له كان مثلهم كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً.
ثم أنذرهم- سبحانه- بعد ذلك بسوء العاقبة إذا ما أعرضوا عن الإيمان بدعوة الإسلام فقال- تعالى- مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.
والطمس إزالة الأثر بالمحو. قال الله- تعالى- فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أى: زالت ومحيت. ويقال: طمست الريح الأثر إذا محته وأزالته. وللمفسرين في المراد من معنى الطمس هنا اتجاهان:
أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه حمل اللفظ على حقيقته بمعنى إزالة ما في الوجه من أعضاء ومحو أثرها.