للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال صاحب الكشاف: قوله «ولا يذكرون الله إلا قليلا» أى: ولا يصلون إلا قليلا، لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به. وما يجاهرون به قليل أيضا، لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه. أو ولا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكرا قليلا في الندرة، وهكذا ترى كثيرا من المتظاهرين بالإسلام لو صحبته الأيام والليالى لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق به أوقاته لا يفتر عنه..

فإن قلت ما معنى المراءاة وهي مفاعلة من الرؤية؟ قلت: فيها وجهان:

أحدهما: أن المرائى يريهم عمله وهم يرون استحسانه.

والثاني: أن يكون من المفاعلة بمعنى التفعيل. فيقال: راءى الناس. يعنى رآهم كقولك نعمه وناعمه.. روى أبو زيد: راءت المرأة المرآة الرجل: إذا أمسكتها لترى وجهه.. «١» .

وقوله: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ حال من فاعل يراءون واسم الإشارة «ذلك» مشار به إلى الإيمان والكفر المدلول عليه بذكر المؤمنين والكافرين.

قال القرطبي: المذبذب: المتردد بين أمرين. والذبذبة: الاضطراب. يقال: ذبذبته فتذبذب. ومنه قول النابغة- في مدح النعمان بن المنذر-

ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب

أى: يضطرب وقال ابن جنى: المذبذب: المهتز القلق الذي لا يثبت ولا يتمهل. فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين. لا مخلصين للإيمان ولا مصرحين بالكفر. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين- أى المترددة بين قطيعين- تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى» «٢» .

وقوله لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ في محل نصب على أنه حال من ضمير مُذَبْذَبِينَ أو على أنه بيان وتفسير له.

وقوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أى: ومن يضلله الله- تعالى- عن طريق الحق، بسبب إيثاره الغواية على الهداية. فلن تجد له سبيلا يوصله إلى الصراط المستقيم.

وبعد هذا الذم الشديد لما كان عليه المنافقون من خداع ورياء وضلال. وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن موالاة الكافرين فقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.


(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٧٩
(٢) القرطبي ج ٥ ص ٤٢٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>