لولادتها لعيسى من غير أب. وقد برأها الله- تعالى- مما نسبوه إليها. في قوله- تعالى- وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها، فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا، وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ «١» .
وقوله: بُهْتاناً منصوب على أنه مفعول به لقوله- تعالى- وَقَوْلِهِمْ، فإنه متضمن معنى كلام نحو: قلت خطبة وشعرا. ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف، أى: وبكفرهم وقولهم على مريم قولا بهتانا. أو هو مصدر في موضع الحال أى: مباهتين. ووصفه بالعظم لشناعته وبلوغه النهاية في الكذب والافتراء.
ثم سجل عليهم بعد ذلك رذيلة سابعة ورد عليهم بما يخرس ألسنتهم، ويفضحهم على رءوس الأشهاد في كل زمان ومكان فقال: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ، وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ والمسيح: لقب تشريف وتكريم لعيسى- عليه السلام- قيل: لقب بذلك لأنه ممسوح من كل خلق ذميم. وقيل: لأنه مسح بالبركة كما في قوله- تعالى-: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وقيل لأن الله مسح عنه الذنوب.
أى: وبسبب قولهم على سبيل التبجح والتفاخر إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، لعنهم الله وغضب عليهم، كما لعنهم وغضب عليهم- أيضا- بسبب جرائمهم السابقة.
وهذا القول الذي صدر عنهم هو في ذاته جريمة لأنهم قالوه على سبيل التبجح والتفاخر لقتلهم- في زعمهم- نبيا من أنبياء الله، ورسولا من أولى العزم من الرسل. وقولهم هذا وإن كان يخالف الحقيقة والواقع، إلا أنه يدل على أنهم أرادوا قتله فعلا، وسلكوا كل السبل لبلوغ غايتهم الدنيئة، فدسوا عليه عند الرومان، ووصفوه بالدجل والشعوذة، وحاولوا أن يسلموه لأعدائه ليصلبوه، بل زعموا أنهم أسلموه فعلا لهم، ولكن الله- تعالى- خيب سعيهم، وأبطل مكرهم، وحال بينهم وبين ما يشتهون، حيث نجى عيسى- عليه السلام- من شرورهم، ورفعه إليه دون أن يمسه سوء منهم.
ولا شك أن ما صدر عن اليهود في حق عيسى- عليه السلام- من محاولة قتله، واتخاذ كل وسيلة لتنفيذ غايتهم، ثم تفاخرهم بأنهم قتلوه وصلبوه، لا شك أن كل ذلك يعتبر من أكبر الجرائم لأنه من المقرر في الشرائع والقوانين أن من شرع في ارتكاب جريمة من الجرائم واتخذ كل الوسائل لتنفيذها، ولكنها لم تتم لأمر خارج عن إرادته، فإنه يعد من المجرمين الذين يستحقون العقاب الشديد.