للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واليهود قد اتخذوا كافة الطرق لقتل عيسى- عليه السلام- كما بينا-، ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون لأسباب خارجة عن طاقتهم. ومعنى هذا أنه لو بقيت لهم أية وسيلة لإتمام جريمتهم النكراء لما تقاعسوا عنها، ولأسرعوا في تنفيذها فهم يستحقون عقوبة المجرم في تفكيره، وفي نيته، وفي شروعه الأثيم، لارتكاب ما نهى الله عنه.

قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كانوا كافرين بعيسى- عليه السلام- أعداء له، عامدين لقتله، يسمونه الساحر ابن الساحرة، والفاعل ابن الفاعلة، فكيف قالوا: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ؟

قلت: قالوه على وجه الاستهزاء، كقول فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم، رفعا لعيسى عما كانوا يذكرونه به، وتعظيما لما أرادوا بمثله كقوله: لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً «١» .

وقوله- تعالى- وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ رد على مزاعمم الكاذبة، وأقاويلهم الباطلة التي تفاخروا بها بأنهم قتلوا عيسى- عليه السلام-. أى: إن ما قاله اليهود متفاخرين به، وهو زعمهم أنهم قتلوا عيسى- عليه السلام-، هو من باب أكاذيبهم المعروفة عنهم فإنهم ما قتلوه، وما صلبوه ولكن الحق أنهم قتلوا رجلا آخر يشبه عيسى- عليه السلام- في الخلقة فظنوه إياه وقتلوه وصلبوه، ثم قالوا. إنا قتلنا المسيح ابن مريم رسول الله.

قال الفخر الرازي: قوله: شُبِّهَ مسندا إلى ماذا؟ إن جعلته مسندا إلى المسيح فهو مشبه به وليس بمشبه. وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر؟ والجواب من وجهين:

الأول: أنه مسند إلى الجار والمجرور. وهو كقولك: خيل إليه. كأنه قيل: ولكن وقع لهم الشبه. الثاني: أن يسند إلى ضمير المقتول، لأن قوله: وَما قَتَلُوهُ يدل على أنه وقع القتل على غيره فصار ذلك الغير مذكورا بهذا الطريق فحسن إسناد شُبِّهَ إليه «٢» .

وقال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف قوله: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ زعم أكثر اليهود أنهم قتلوا المسيح وصلبوه، فأكذبهم الله- تعالى- في ذلك وقال: وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ. أى:

شبه لهم المقتول بأن ألقى عليه شبه المسيح فلما دخلوا عليه ليقتلوه- أى ليقتلوا المسيح- وجدوا الشبيه فقتلوه وصلبوه، يظنونه المسيح وما هو في الواقع، إذ قد رفع الله عيسى إلى السماء، ونجاه من شر الأعداء.


(١) وتفسير الكشاف ج ١ ص ٥٨٧
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٩٩

<<  <  ج: ص:  >  >>