وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام. سواء أكان ذلك الإنعام وأصلا إليك أم إلى غيرك. وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك، فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد، وأن الحمد أعم من الشكر.
إذا عرفت هذا فنقول: إنما لم يقل: المدح لله، لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره. وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار. فكان قوله «الحمد لله» تصريحا بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة ... وإنما لم يقل: الشكر لله، لأننا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك، وهذا يشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة. فحينئذ يكون المطلوب الأصلى له وصول النعمة إليه. وهذه درجة حقيرة. فأما إذا قال «الحمد لله» ، فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه- سبحانه- أوصل النعمة إليه، فيكون الإخلاص أكمل، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت «١» .
وقد أجرى- سبحانه- على لفظ الجلالة نعت الربوبية للعالمين، ليكون كالاستدلال على استحقاقه- تعالى- للحمد وحده، وفي ذلك إشعار لعباده بأنهم مكرمون من ربهم، إذ الأمر بغير توجيه فيه إيماء إلى إهمال عقولهم، أما إذا كان موجها ومعللا فإنه يكون فيه إشعار لهم برعاية ناحية العقل فيهم، وفي تلك الرعاية تشريف وتكريم لهم.
فكأنه- سبحانه- يقول لهم: اجعلوا حمدكم وثناءكم لي وحدي. لأنى أنا رب العالمين.
وأنا الذي تعهدتكم برعايتي وعنايتي وتربيتي منذ تكوينكم من الطين حتى استويتم عقلاء مفكرين.
وقد أتبع- سبحانه- هذا الوصف وهو رَبِّ الْعالَمِينَ، بوصف آخر هو الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لحكم سامية من أبرزها: أن وصفه- تعالى- رَبِّ الْعالَمِينَ أى: مالكهم، قد يثير في النفوس شيئا من الخوف أو الرهبة، فإن المربى قد يكون خشنا جبارا متعنتا، وذلك مما يخدش من جميل التربية، وينقص من فضل التعهد.
لذا قرن- سبحانه- كونه مربيا، بكونه الرحمن الرحيم، لينفى بذلك هذا الاحتمال، وليفهم عباده بأن ربوبيته لهم مصدرها عموم رحمته وشمول إحسانه، فهم برحمته يوجدون، وبرحمته يتصرفون ويرزقون، وبرحمته يبعثون ويسألون.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٣ طبعة المطبعة الشرقية سنة ١٣٣٤ هـ.