أى: إن الله لا يهدى القوم الظالمين لأنفسهم إلى الطريق المستقيم، وإنما يخليهم وشأنهم فيقعون في الكفر والضلال، والفسوق والعصيان، بسبب وضعهم الولاية في غير موضعها الحق، وسيرهم في طريق أعداء الله.
وبعد هذا النهى الشديد عن موالاة أعداء الله، صور القرآن حالة من حالات المنافقين بين فيها كيفية توليهم لأعداء الله، وأشعر بسببه فقال: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ.
والدائرة: من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها. وأصلها داورة. لأنها من دار يدور. ومعناها لغة: ما أحاط بالشيء. والمراد بها هنا: المصيبة من مصائب الدهر التي تحيط بالناس كما تحيط الدائرة بما في داخلها.
والمعنى: فترى- يا محمد أولئك المنافقين الذين ضعف إيمانهم، وذهب يقينهم، يسارعون في مناصرة أعداء الإسلام مسارعة الداخل في الشيء، قائلين في أنفسهم أو للناصحين لهم بالثبات على الحق: اتركونا وشأننا فإننا نخشى أن تنزل بنا مصيبة من المصائب التي يدور بها الزمان كأن تمسنا أزمة مالية، أو ضائقة اقتصادية، أو أن يكون النصر في النهاية لهؤلاء الذين نواليهم فنحن نصادقهم ونصافيهم لنتقى شرهم، ولننال عونهم عند الملمات والضوائق.
قال الجمل: والفاء في قوله فَتَرَى إما للسببية المحضة: أى: بسبب أن الله لا يهدى القوم الظالمين المتصفين بما ذكر فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ وإما للعطف على قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ من حيث المعنى.
والرؤية في قوله فَتَرَى. بصرية، فتكون جملة يسارعون حال. وقيل علمية فتكون جملة يسارعون مفعولا ثانيا. والأول أنسب بظهور نفاقهم.
وقوله: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ حال من ضمير يسارعون «١» .
والتعبير بقوله: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ تعبير قوى رائع، وصف القرآن به المنافقين وأشباههم في الكفر والضلال في مواطن كثيرة، لأنه لما كانت قوة القلب تضرب مثلا للثبات والتماسك.
كان ضعف القلب الذي عبر عنه بالمرض يضرب مثلا للخور، والتردد والتزلزل، وانهيار النفس.
وهذه طبيعة المنافقين ومن على شاكلتهم في كل زمان ومكان. إنهم لا يمكن أن يكونوا صرحاء في انحيازهم إلى ناحية معينة. وإنما هم يترددون بين الناحيتين، ويلتمسون الحظوة في
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٥٠٠.