الجانبين- فهم كما يقال: يصلون خلف على ويأكلون على مائدة معاوية- وأبلغ من كل ذلك وصف الله لهم بقوله: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ.
والتعبير بقوله- سبحانه- ترى.. تصوير للحال الواقعة منهم بأنها كالمرئية المكشوفة التي لا تخفى على العقلاء البصراء.
وفي ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتحذير له ولأصحابه من مكر أولئك الذين في قلوبهم مرض.
والتعبير بقوله: يُسارِعُونَ فِيهِمْ يشير إلى أنهم لا يدخلون ابتداء في صفوف الأعداء «وإنما هم منغمرون فيهم دائما» ولا يخرجون عن دائرتهم بل ينتقلون في صفوفهم بسرعة ونشاط من دركة إلى دركة، ومن إثم إلى آثام.
وقوله- تعالى- حكاية عنهم: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ بيان لما اعتذروا به من معاذير كاذبة تدل على سقوط همتهم، وقلة ثقتهم بما وعد الله به المؤمنين من حسن العاقبة.
ولذا فقد رد الله عليهم بما يكبتهم، وبما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم فقال تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ.
وعسى: لفظ يدل على الرجاء والطمع في الحصول على المأمول، وإذا صدر من الله- تعالى- كان متحقق الوقوع لأنه صادر من أكرم الأكرمين الذي لا يخلف وعده، ولا يخيب من رجاه.
والفتح يطلق بمعنى التوسعة بعد الضيق كما في قوله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ. ويطلق بمعنى الفصل بين الحق والباطل. ومن ذلك قوله- تعالى-: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ ويطلق بمعنى الظفر والنصر كما في قوله- تعالى- إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.
ولفظ الفتح هنا يشمل هذه الأمور الثلاثة فهو سعة بعد ضيق، وفصل بين حق وباطل، ونصر بعد جهاد طويل.
والمعنى: لا تهتموا أيها المؤمنون بمسارعة هؤلاء الذين في قلوبهم مرض إلى صفوف أعدائكم وارتمائهم في أحضانهم خشية أن تصيبهم دائرة، فلعل الله- عز وجل- بفضله وصدق وعده أن يأتى بالخير العميم والنصر المؤزر الذي يظهر دينه. ويجعل كلمته هي العليا.. أو يأتى بأمر من عنده لا أثر لكم فيه فيزلزل قلوب أعدائكم، وينصركم عليهم، ويجعل الهزيمة والندم للموالين لأعدائكم، وبسبب شكهم في أن تكون العاقبة للإسلام والمسلمين.
ولقد صدق الله وعده، ففضح المنافقين وأذلهم، وأنزل الهزيمة باليهود، وأورث المؤمنين