أى: قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون أولا، فلما ألقوا ما كان معهم من الحبال والعصى سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ أى: خيلو إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخارج مع أنه لم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، ولذا لم يقل- سبحانه- سحروا الناس.
وقوله وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أى: خوفوهم وأفزعوهم بما فعلوا من السحر. وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أى: في باب السحر، أو في عين من رآه، فإنه ألقى كل واحد منهم عصاه، فصارت كأنها ثعابين.
والتعبير بقوله- سبحانه- وَاسْتَرْهَبُوهُمْ تعبير مصور بليغ، فهو يوحى بأنهم استجاشوا وجدان الناس قسرا، وساقوهم سوقا بوسائل مصطنعة مفتعلة لا تستند إلى واقع سليم.
روى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا، فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
وروى أنهم لونوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة. قيل. جعلوا فيها الزئبق.
وقال بعض العلماء: قيل إنها كانت عصيا مجوفة قد ملئت زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا ملؤها نارا، فلما طرحت عليها العصى المجوفة المملوءة بالزئبق حركها، لأن شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فأخبر الله أن ذلك كان مموها على غير حقيقته. فعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية» «١» .
ويمضى القرآن فيبين لنا أن هذا السحر العظيم الذي استرهب الناس وسحر أعينهم، قد تهاوى في لحظة، وانطوى في ومضة، وزالت آثاره بعد أن قذفه موسى بسلاح الحق الذي سلحه به ربه، استمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك فيقول: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ.
اللقف: التناول بسرعة. يقال: لقف الشيء يلقفه لقفا ولقفانا، أخذه بسرعة.
والإفك: الكذب. يقال أفك يأفك، وأفك يأفك إفكا وأفكا- كضرب وعلم- إذا كذب، وأصله من الأفك- بفتح أوله- وهو بمعنى صرف الشيء عن وجهه الذي يجب أن يكون عليه.
واطلق على الكذب إفك- بكسر الهمزة- لكونه مصروفا عن وجه الحق، ثم صار حقيقة فيه.
والمعنى: وأوحينا إلى موسى- بعد أن أوجس خيفة مما رآه من أمر السحرة- أن الق عصاك ولا تخف إنك أنت الأعلى، فألقاها فإذا هي تبتلع وتلتقم بسرعة ما يكذبون ويموهون به أولئك السحرة فَوَقَعَ الْحَقُّ أى: ظهر وتبين وثبت الحق الذي عليه موسى- وفسد وبطل ما كانوا
(١) تفسير المنار ج ٩ ص ٦٦.