أما اليهود ومن على شاكلتهم ممن في قلوبهم مرض فقد استقبلوه بالاستهزاء والجحود، وإثارة الشبهات، لبلبلة الأفكار، وتشكيك المسلمين في عقيدتهم.
ومما قاله المشركون في ذلك: إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد تحير في دينه، وبوشك أن يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا.
ومما قاله المنافقون: ما بال المسلمين كانوا على قبلة ثم تركوها؟
ومما قاله اليهود- الذين تولوا كبر التشكيك في صحة التوجه إلى البيت الحرام- إن القبلة الأولى- وهي بيت المقدس- إن كانت على حق فقد تركتم أيها المسلمون الحق وإن كانت على باطل فعبادتكم السابقة باطلة، ولو كان محمد صلّى الله عليه وسلّم نبيا حقا ما ترك قبلة الأنبياء قبله وتحول إلى غيرها وما فعل اليوم شيئا وخالفه غدا.
ومقصدهم الأول من وراء هذه المقالات المرذلة، الطعن في شريعة الإسلام، وفي نبوة النبي (عليه الصلاة والسلام) .
ثالثا: ولكن القرآن الكريم أفسد عليهم خطتهم، وأحبط مكرهم، فأخبر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم بما سيقوله هؤلاء السفهاء جميعا قبل أن يصدر عنهم، ومهد لتحويل القبلة بما يطمئن النفوس ويثبت الإيمان في القلوب ويهيئ الأفئدة لتقبل هذا الأمر العظيم، فذكر الله في الآيات السابقة على التحويل أنه إذا نسخ آية أتى بما هو خير منها أو مثلها، لأنه القادر على كل شيء، المالك للسموات والأرض تصرفا وتدبيرا، وهو أعلم بما يتعبد به عباده وما فيه الخير لهم.
ثم ذكر- سبحانه- بعد ذلك أن له المشرق والمغرب. ففي أى مكان توجه المصلّى فثم وجه الله، ثم نبه- رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأنه لن يرضى عنه اليهود ولا النصارى حتى يتبع ملتهم. إشارة إلى أن المصلحة في التوجه إلى بيت المقدس قد انتهت وان الاستمرار على ذلك لن يكبح جماع نفوس لم تصبغ بهداية الله وتوفيقه.
ثم فصل القرآن بعد ذلك الحديث عن البيت الحرام وتعظيمه وشرفه فذكر أن الله- تعالى- قد جعله مثابة ومرجعا للحجاج والعمار. يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار وكلما ازدادوا له زيارة زاد شوقهم إليه. وجعله- أيضا- حرما آمنا لهم. بينما يتخطف الناس من حولهم.
وأخبر- سبحانه- أنه قد عهد في بنائه إلى نبيين كريمين هما سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل- عليهما السلام- وأمرهما بتطهيره من كل رجس للطائفين والعاكفين والركع السجود.
وقد كانت الآيات الواردة في شأن المسجد الحرام قبيل الأمر بتحويل القبلة كفيلة بإعطاء صورة وافية لكل عاقل، بأن بيتا له هذه القداسة جدير بأن يكون قبلة للناس في صلاتهم،