للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومهما يكن من خلاف بين العلماء في الجهة التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يستقبلها في صلاته وهو بمكة، فإن الأمر الذي لا خلاف فيه، أنه بعد الهجرة إلى المدينة لم يستقبل في صلاته سوى بيت المقدس بأمر من الله تعالى- وقد وردت أحاديث صحيحة في ذلك، منها ما أخرجه البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب- رضي الله عنه- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلّى أول صلاة صلاها العصر وصلّى معه قوم فخرج رجل ممن كان معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم جهة مكة فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلّى قبل بيت المقدس فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك «١» .

ومنها ما أخرجه عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة) «٢» .

وبذلك نرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتوجه في صلاته وهو بالمدينة إلى بيت المقدس، قبل أن يأمره الله- تعالى- بالتحول إلى المسجد الحرام.

ثانيا: الشبهات التي أثارها اليهود بعد تحول المسلمين في صلاتهم إلى المسجد الحرام.

قلنا إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد هجرته إلى المدينة استقبل في صلاته بيت المقدس بأمر من الله- تعالى- تأليفا لقلوب اليهود لأن بيت المقدس قبلتهم، ورمز وحدتهم، وقد فرحوا لصلاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين إليه، وكان أمل النبي أن يلبوا دعوته وأن يسارعوا إلى الدخول في الإسلام، ولكنهم عموا وصموا، وأخذوا يشيعون بين الناس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد اتبع قبلتهم وعما قريب سيتبع ملتهم، واعتبروا اتجاه المسلمين في صلاتهم إلى بيت المقدس نوعا من اقتباس الهدى منهم، فتأثر الرسول صلّى الله عليه وسلّم من موقفهم الجحودى، وانبثقت في نفسه أمنية التحول إلى الكعبة، وأكثر من التضرع والابتهال إلى الله كي يوجهه إلى قبلة أبيه إبراهيم.

وقد أجاب الله تعالى رجاء نبيه صلّى الله عليه وسلّم فولاه القبلة التي يرضاها، ففرح المؤمنون لذلك لأن في توجههم إلى البيت الحرام، تأليفا لقلوبهم، فهو مثابتهم ومركز تجمعهم، وموطن أمنهم ومهوى أفئدتهم، وجامع وحدتهم وقد استقبلوا هذا التحويل بالسمع والطاعة لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم


(١) البخاري باب «الصلاة من الإيمان» من كتاب الإيمان ج ١ ص ١٧.
(٢) البخاري باب «ما جاء في القبلة» من كتاب الصلاة ج ١ ص ١٠٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>