وكأن الآية تقول لأهل الكتاب في تأكيد: إن أمامكم دينا دعيتم إلى اتباعه، واقترنت دعوته بالحجة فانظروا في دلائل صحته، وسمو حكمته، ولا تردوه بمجرد أن الأنبياء كانوا على ما أنتم عليه الآن، فإن دعواكم هذه لا تنفعكم ولو في حال تسليمها لكم، إذ لا يمنع اختلاف الشرائع باختلاف المصالح، وعلى حسب ما تقتضيه حكمة عالم الغيب والشهادة.
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد دحضت ما ادعاه اليهود من أن الهدى في إتباع ملتهم، وأقامت الحجج والشواهد على كذبهم وافترائهم وأرشدتهم إلى الدين الحق، ودعتهم إلى الدخول فيه، ووبختهم على المحاجة في دين الله بغير علم، وحذرتهم من الانحراف عن الصراط المستقيم اعتمادا منهم على آباء لهم كانوا أنبياء أو صالحين، فإنه لن تجزى نفس عن نفس شيئا يوم الدين.
ثم تحدث القرآن الكريم بعد ذلك عن قصة تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وأورد الشبهات التي أثارها المشركون وأهل الكتاب- وعلى رأسهم اليهود- حول هذه المسألة، ورد عليها بما يدحضها ويبطلها.
ونظرا لأهمّيّة هذا الموضوع فسيكون كلامنا عنه على النحو التالي:
أولا: كيف كان المسلمون يتجهون في صلاتهم قبل تحويل القبلة إلى المسجد الحرام؟
ثانيا: ما الشبهات التي أثارها اليهود بعد تحويل القبلة إلى المسجد الحرام؟
ثالثا: كيف مهد القرآن الكريم لهذا التحويل؟
رابعا: تفسير الآيات الكريمة التي نزلت بشأن القبلة؟
خامسا: لماذا أطال القرآن الكريم حديثه عن تحويل القبلة مع أنها من الأمور الفرعية.
وإليك الإجابة عن كل سؤال من هذه الأسئلة.
أولا: فرضت الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في مكة ليلة الإسراء والمعراج. ويرى بعض العلماء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستقبل في صلاته- وهو بمكة- بيت المقدس إلا أنه لم يكن يستدير الكعبة، بل كان يجعلها بينه وبين ببيت المقدس، وذلك بأن يقف بين الركنين الأسود واليماني.
ويرى بعضهم أنه كان يستقبل في صلاته وهو بمكة المسجد الحرام. وهذا الرأى هو الذي نرجحه، لأن المسجد الحرام هو قبلة أبيه إبراهيم، ولأنه صلّى الله عليه وسلّم عربي، وظهر بين قومه العرب، ولا شك أن اعتزازهم بالمسجد الحرام، أشد من اعتزازهم بأى مسجد آخر، إذن فالمصلحة والحكمة تقتضيان بأن يستقبل المسلمون في صلاتهم بمكة الكعبة المشرفة.