أى وما شرعنا التوجه إلى القبلة التي كنت عليها قبل وقتك هذا وهي بيت المقدس، إلا لنعامل الناس معاملة الممتحن المختبر، فنعلم من يتبع الرسول ويأتمر بأوامره في كل حال ممن لم يدخل الدين في قرارة نفسه، وإنما دخل فيه على حرف، بحيث يرتد عنه لأقل شبهة، وأدنى ملابسة كما حصل ذلك من ضعاف الإيمان عند تحويل القبلة إلى الكعبة والله- تعالى- عالم بكل شيء، ولكنه شاء أن يكون معلومه الغيبى مشاهدا في العيان، إذ تعلق الشيء واقعا في العيان، هو الذي تقوم عليه الحجة، ويترتب عليه الثواب والعقاب.
ولذا قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف قال لنعلم ولم يزل عالما بذلك؟ قلت معناه لنعلمه علما يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمه موجودا حاصلا، ونحوه وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وقيل ليعلم رسول الله والمؤمنون، وإنما أسند علمهم إلى ذاته، لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده، وقيل معناه. ليميز التابع من الناكص كما قال- تعالى-: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فوضع العلم موضع التمييز لأن العلم يقع التمييز به» «١» .
ثم بين الله- تعالى- آثار تحويل القبلة في نفوس المؤمنين وغيرهم فقال تعالى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ.
أى: إنما شرعنا لك- يا محمد- القبلة أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكمية ليظهر حال من يتبعك ويطيعك في كل حالة ممن لا يطيعك، وإن كانت هذه الفعلة- وهي تحويلنا لك من بيت المقدس إلى الكعبة- لكبيرة وشاقة، إلا على الذين خلق الله الهداية في قلوبهم فتلقوا أوامرنا بالخضوع والإذعان، وقالوا سمعنا وأطعنا كل من عند ربنا.
بشارة عظيمة للمؤمنين، وجواب لما جاشت به الصدور، وتكذيب لما ادعاه اليهود من أن عبادة المؤمنين في الفترة التي سبقت تحويل القبلة إلى الكعبة ضائعة وباطلة.
فقد أخرج البخاري من حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه- أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما تقول فيهم، فأنزل الله- تعالى- وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.
وقال ابن عباس: كان رجال من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ماتوا على القبلة الأولى، منهم: أسعد بن زرارة، وأبو أمامة ... وأناس آخرون فجاءت عشائرهم فقالوا: يا رسول