للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

البصري ذلك قال: وددت أنه لم يحدثه؟؟ انهم يتلقفون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه ذريعة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم.

ومما يشهد بفقه بعض العلماء وحسن إدراكهم، ووضعهم العلم في موضعه المناسب: ما جاء في بعض الكتب أن سلطان قرطبة سأل يحيى بن يحيى الليثي عن حكم يوم أفطره في رمضان عامدا لأن شهوته غلبته على وطء بعض جواريه، فأفتاه بأن من الواجب عليه أن يصوم ستين يوما، وكان بعض الفقهاء جالسا فلم يجترئ على مخالفة يحيى. فلما انفض المجلس قيل له: لم خصصت الحكم بأحد المخيرات وكتمت العتق والإطعام؟ فقال- رحمه الله- لو فتحنا هذا الباب لوطئ كل يوم وأعتق أو أطعم، فحملته على الأصعب لئلا يعود.

فالإمام يحيى عند ما كتم عن السلطان الكفارتين الأخريين- وهما الإعتاق والإطعام- لا يعتبر مسيئا، لأنه قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حرمة فريضة الصوم «١» .

وهكذا نرى أن إظهار العلم عند تحقق المقتضى لإظهاره، ووضعه في موضعه اللائق به بدون خشية أو تحريف يدل على قوة الإيمان، وحسن الصلة بالله- تعالى-: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ.

وبعد هذا الوعيد الشديد لأولئك الكاتمين لما أمر الله بإظهاره، أورد القرآن في أعقاب ذلك آية تفتح لهم نافذة الأمل، وتبين لهم أنهم إذا تابوا وأنابوا قبل الله توبتهم ورحمهم، فقال- تعالى-: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أى: رجعوا عن الكتمان وعن سائر ما يجب أن يتاب عنه، وندموا على ما صدر عنهم وَأَصْلَحُوا ما أفسدوه بالكتمان بكل وسيلة ممكنة وَبَيَّنُوا للناس حقيقة ما كتموه فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أى: أقبل توبتهم، وأفيض عليهم من رحمتي ومغفرتي، وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ أى: المبالغ في قبول التوبة ونشر الرحمة.

فالآية الكريمة قد فتحت للكاتمين لما يجب إظهاره باب التوبة وأمرتهم بولوجه، وأفهمتهم أنهم إذا فعلوا ما ينبغي وتركوا ما لا ينبغي وأخلصوا لله نياتهم، فإنه- سبحانه- يقبل توبتهم، ويغسل حويتهم، أما إذا استمروا في ضلالهم وكفرهم، ومضوا في هذا الطريق المظلم حتى النهاية بدون أن يحدثوا توبة، فقد بين القرآن مصيرهم بعد ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أى: إن الذين كفروا وكتموا ما من شأنه أن يظهر، كإخفائهم النصوص المشتملة على البشارة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم واستمروا على هذا الكفر والإخفاء حتى ماتوا.

أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أى: أولئك الذين وصفوا بما ذكر عليهم


(١) تفسير التحرير والتنوير للشيخ الطاهر بن عاشور ج ٢ ص ١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>