ويكون مقتضاه غفران جميع الذنوب، وهو أولى من دعوى زيادتها» «١» .
وقوله- سبحانه- قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ حكاية لرد آخر من الردود السيئة التي قابل بها المكذبون رسلهم.
أى: قال الظالمون لرسلهم الذين جاءوا لهدايتهم، ما أنتم إلا بشر مثلنا في الهيئة والصورة والمأكل والمشرب، تريدون بما جئتمونا به أن تصرفونا وتمنعونا عن عبادة الآلهة التي ورثنا عبادتها عن آبائنا ... فإن كنتم صادقين في دعواكم هذه فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أى بحجة ظاهرة تدل على صدقكم وتتسلط هذه الحجة بقوتها على نفوسنا وتجذبها إلى اليقين، من السلاطة وهي التمكن من القهر.
وكأن هؤلاء الظالمين بقولهم هذا، يرون أن الرسل لا يصح أن يكونوا من البشر، وإنما يكونون من الملائكة.
وكأن ما أتاهم به الرسل من حجج باهرة تدل على صدقهم، ليس كافيا في زعم هؤلاء المكذبين للإيمان بهم، بل عليهم أن يأتوهم بحجج محسوسة أخرى، وهكذا الجحود العقلي، والانطماس النفسي يحمل أصحابه على قلب الحقائق، وإيثار طريق الضلالة على طريق الهداية.
وهنا يحكى القرآن أن الرسل- عليهم السلام- قد قابلوا هذا السفه من أقوالهم بالمنطق الحكيم، وبالأسلوب المهذب فيقول: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ...
أى: قال الرسل لمكذبيهم على سبيل الإرشاد والتنبيه: نحن نوافقكم كل الموافقة على أننا بشر مثلكم كما قلتم، ولكن هذه المماثلة بيننا وبينكم في البشرية، لا تمنع من أن يتفضل الله على من يشاء التفضل عليه من عباده، بأن يمنحه النبوة أو غيرها من نعمه التي لا تحصى.
فأنت ترى أن الرسل- عليهم السلام- قد سلموا للمكذبين دعواهم المماثلة في البشرية، في أول الأمر، ثم بعد ذلك بينوا لهم جهلهم وسوء تفكيرهم، بأن أفهموهم بطريق الاستدراك، أن المشاركة في الجنس لا تمنع التفاضل، فالبشر كلهم عباد الله، ولكنه- سبحانه- يمن على بعضهم بنعم لم يعطها لسواهم..
فالمقصود بالاستدراك دفع ما توهمه المكذبون، من كون المماثلة في البشرية تمنع اختصاص بعض البشر بالنبوة.