العلماء- الشجاعة التي تجعلهم يجهرون بكلمة الحق في وجوه الطغاة لا يخافون لومة لائم، ويبلغون رسالات الله دون أن يخشوا أحدا سواه، ويبينون للناس ما أمرهم الله ببيانه بطريقة سليمة أمينة خالية من التحريف الكاذب، والتأويل الباطل.
قال الإمام الرازي: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وأحبارهم. كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا، فلما بعث الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم خافوا انقطاع تلك المنافع فكتموا أمره- عليه السلام- وأمر شرائعه فنزلت هذه الآية.
ثم قال الإمام الرازي: والآية وإن نزلت في أهل الكتاب لكنها عامة في حق كل من كتم شيئا من باب الدين يجب إظهاره، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» «١» .
والمراد بالكتاب، التوراة، أو جنس الكتب السماوية التي بشرت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
ومِنَ في قوله: مِنَ الْكِتابِ بمعنى في أى: يكتمون ما أنزل الله في كتابه من صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونعته ووقت بعثته.
وقيل للبيان، وهي حال من العائد على الموصول والتقدير: أنزل الله حال كونه من الكتاب والعامل فيه أنزل.
وقوله: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا معطوف على يكتمون.
أى: يكتمون ما أنزل الله من الكتاب مما يشهد بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم ويأخذون من سفلتهم في مقابل ذلك عرضا قليلا من أعراض الدنيا.
والضمير في قوله: بِهِ يعود إلى ما أنزل الله، أو إلى الكتمان الذي يدل عليه الفعل يَكْتُمُونَ أو إلى الكتاب.
ووصف هذا الثمن الذي يأخذونه في مقابل كتمانهم بالقلة، لأن كل ما يؤخذ في مقابلة إخفاء شيء مما أنزله الله فهو قليل حتى ولو كان ملء الأرض ذهبا.
وقوله- تعالى-: أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وما عطف عليه، بيان للعذاب المهين الذي أعدلهم بسبب كتمانهم لما أمر الله بإظهاره وبيعهم دينهم بدنياهم.
أى: أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا ما يؤدى بهم إلى النار وبئس القرار كما قال- تعالى- في حق أكلة مال اليتامى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً.
وفي هذه الجملة الكريمة تمثيل لحالة أولئك الكفار الحاصلة من أكلهم ذلك الثمن القليل
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٢٨، بتصرف.