للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واليقين. ولا نقص أنقص مما للباطل والشبه.

وقيل لبعض العلماء: فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ثم لم تخل كل واحدة من الأربع- بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق- من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه. وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف «١» ...

ثم فصل القرآن بعد ذلك أوصاف المتقين، ومدحهم بجملة من المناقب الحميدة، فقال:

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أى: يصدقون بما غاب عن حواسهم، كالصانع وصفاته، وكاليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب.

والإيمان لغة التصديق والإذعان، وهو إفعال من الأمن. وشرعا التصديق بما علم بالضرورة أنه من الدين، كالايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ... إلخ، وعدى يُؤْمِنُونَ بالباء لتضمينه معنى أقر واعترف.

والغيب: مصدر غاب يغيب، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب، وهو الظاهر من هذه الآية الكريمة. ومعناه: ما لا تدركه الحواس، ولا يعلم ببداهة العقل.

قال بعض العلماء: وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان، لأن الإيمان بالغيب هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله- تعالى- فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما من يعتقد أنه ليس من وراء عالم الماديات عالم آخر، فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة، كما هو حال الماديين الذين يقولون: «ما يهلكنا إلا الدهر «٢» :

والإيمان بالغيب: يستلزم التصديق به على وجه الجزم، وهو لا يحصل إلا عن دليل.

ولا شك أن قيام البراهين على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقا عن دليل، فنحن لا نحتاج في الإيمان بالملائكة والكتب السماوية السابقة، والرسل الذين أرسلوا من قبل، والبعث وما فيه من ثواب وعقاب، لا نحتاج في الإيمان بكل ذلك إلى دليل زائد على الأدلة التي قامت على صدق نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم.

والإيمان بالغيب دليل على اتساع العقول، وسلامة القلوب، إذ أن معنى الإيمان بالغيب هو


(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٣٦.
(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ١ ص ١١٨ للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور.

<<  <  ج: ص:  >  >>