أساطير الأولين، لأنه لروعة حكمته، وسطوع حجته، لا يرتاب ذو عقل متدبر في كونه وحيا سماويا، ومصدر هداية وإصلاح.
فالجملة الكريمة تنفى الريب في القرآن عمن شأنهم أن يتدبروه، ويقبلوا على النظر فيه بروية، ومن ارتاب في القرآن فلأنه لم يقبل عليه بأذن واعية، أو بصيرة نافذة، أو قلب سليم.
وقدم جملة لا رَيْبَ فِيهِ على جملة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ لأنه أراد أن ينفى عن ساحة كونه كتابا هاديا غبار الريب، وغيوم الشكوك، حتى يستقر في النفوس وصفه، وتطمئن القلوب لآثاره ومقاصده وهداياته.
وفصل جملة لا رَيْبَ فِيهِ عما قبلها لكمال الاتصال، حيث كانت جملة ذلِكَ الْكِتابُ مفيدة لكماله، وجملة لا رَيْبَ فِيهِ مفيدة لنفى الريب عنه.
والمراد بكونه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ مع أنه هداية لهم ولغيرهم، لأنهم هم المنتفعون به دون سواهم.
ويصح أن يكون المعنى: هدى للناس الذين صاروا متقين بهذه الهداية، كما أقول: هديت مهتديا، أو كتبت مكتوبا، على معنى أنى هديت شخصا صار مهديا بهذه الهداية، وكتبت خطابا صار مكتوبا بهذه الكتابة، وهو أسلوب عربي صحيح. كما ورد في حديث «من قتل قتيلا فله سلبه» .
قال صاحب الكشاف: ومحل هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الرفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر مع لا رَيْبَ فِيهِ ل «ذلك» ... والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحا، وأن يقال: إن قوله الم جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة برأسها.
وذلِكَ الْكِتابُ جملة ثانية. ولا رَيْبَ فِيهِ ثالثة. وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ رابعة. وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض. فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة: بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. فكان تقريرا لجهة التحدي، وشدا من أعضاده ثم نفى عنه أن يتشبث به من طرف الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله. لأنه لا كمال أكمل من الحق