الذي أغراك بعبادة هذه الأصنام كان للرحمن عصيا، أى: كثير العصيان، لا يهدى الناس إلى طاعة الله، وإنما يهديهم إلى مخالفته ومعصيته وموجبات غضبه.
ثم ختم هذا النداء بما يدل على حبه له، وشفقته عليه فقال: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا.
أى: يا أبت إنى أشفق عليك من أن ينزل بك عذاب من الرحمن بسبب إصرارك على عبادة غيره، وبذلك تصبح قرينا للشيطان في العذاب بالنار، لأنك انقدت له، وخالفت طريق الحق.
بهذا الأسلوب الحكيم الهادئ الرقيق ... خاطب إبراهيم أباه، وهو يدعوه إلى عبادته- تعالى- وحده.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال ما ملخصه: انظر كيف رتب إبراهيم الكلام مع أبيه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق، مع استعماله المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن.
وذلك أنه طلب منه- أولا- العلة في خطئه. طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه ... حيث عبد ما ليس به حس ولا شعور.
ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا، فلم يصف أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق. ولكنه قال: إن معى طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك.. ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه، بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل.. ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة، وما يجره ما هو فيه من الوبال.
ولم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له، وأن العذاب لاصق به، ولكنه قال: إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ....
وصدر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله: يا أَبَتِ
توسلا واستعطافا ... «١» .
ولكن هذه النصيحة الحكيمة الغالية من إبراهيم لأبيه. لم تصادف أذنا واعية ولم تحظ من أبيه بالقبول بل قوبلت بالاستنكار والتهديد فقد قال الأب الكافر لابنه المؤمن: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا.
والاستفهام في قوله أَراغِبٌ للإنكار والتهديد والرغبة عن الشيء: تركه عمدا زهدا فيه لعدم الحاجة إليه.
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٩.