للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ جملة خبرية اللفظ إنشائية المعنى أى «ليتربصن» وإخراج الأمر في صورة الخبر- كما يقول الزمخشري- «تأكيد للأمر، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص. فهو يخبر عنه موجودا. ونحوه قولهم في الدعاء: «رحمك الله» أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة. كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضا فضل توكيد. ولو قيل: «ويتربص المطلقات» لم يكن بتلك الوكادة» «١» .

وفي قوله- تعالى-: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ما فيه من الإبداع في الإشارة والنزاهة في العبارة والسمو في المعنى، وذلك لأن المرأة المطلقة كثيرا ما تشعر بعد طلاقها بأنها في حاجة إلى أن تثبت أن إخفاقها في حياتها الزوجية السابقة ليس لنقص فيها، أو لعجز عن إنشاء حياة زوجية أخرى، وهذا الشعور قد يدفعها إلى التسرع والاندفاع من أجل إنشاء هذه الحياة، وهنا تبرز طريقة القرآن الحكيمة في معالجة النفوس، إنه يقول للمطلقة: إن التطلع إلى إنشاء حياة زوجية أخرى ليس عيبا، ولكن الكرامة توجب عليها الانتظار والتريث، إذ لا يليق بالحرة الكريمة أن تتنقل بين الأزواج تنقلا سريعا.. وأيضا فإن نداء الفطرة، وتعاليم الشريعة توجبان عليها الانتظار مدة ثلاثة قروء، لكي تستبرئ رحمها، حتى إذا كان هناك حمل نسب إلى الأب الشرعي له.

وفي قوله- تعالى-: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ إشعار بأن هذا التربص يجب أن يكون من ذات أنفسهن وليس من عامل خارجى، فشأن الحرة الكريمة المؤمنة أن تحجز نفسها بنفسها عن كل ما يتنافى مع الكرامة والشرف، فقد تجوع الحرة ولكنها لا تأكل بثديها- كما يقولون-.

وقد أشار صاحب الكشاف إلى المعنى بقوله: فإن قلت وما معنى ذكر الأنفس- هنا-؟

قلت: في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن. وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال. فأمرن أن يقمعن أنفسهن، ويغلبنها على الطموح، ويجبرنها على التربص» «٢» .

وقوله- تعالى-: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ نصب ثلاثة على النيابة عن المفعول فيه، لأن الكلام على تقدير مضاف، أى مدة ثلاثة قروء. فلما حذف المضاف خلفه المضاف إليه في الإعراب.

هذا وللعلماء رأيان شهيران في المراد بقوله- تعالى-: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ.


(١) تفسير الكشاف ج ١ صفحة ٢٧١.
(٢) تفسير الكشاف ج ١ صفحة ٢٧١.

<<  <  ج: ص:  >  >>