وقال القرآن: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا. ولم يذكر مخادعتهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولعل الحكمة في ذلك أن القرآن يعتبر مخادعة الله مخادعة لرسوله، لأنه هو الذي بعثه إليهم، وهو المبلغ عن الله أحكامه وشرائعه. قال- تعالى-:
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وقال- تعالى- مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ.
ثم بين- سبحانه- غفلتهم وغباءهم فقال: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ.
الأنفس: جمع نفس بمعنى ذات الشيء وحقيقته. وتطلق على الجوهر اللطيف الذي يكون به الحس والحركة والإدراك.
ويشعرون: مضارع شعر بالشيء- كنصر وكرم- يقال: شعر بالشيء أى: فطن له، ومنه الشاعر لفطنته، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني ودقائقها.
والشعور: العلم الحاصل بالحواس، ومنه مشاعر الإنسان أى: حواسه.
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين لم يخادعوا الله لعلمه بما يسرون، ولم يخادعوا المؤمنين لأن الله يدفع عنهم ضرر خداع المنافقين، وإنما يخدعون أنفسهم لأن ضرر المخادعة عائد عليهم، ولكنهم لا يشعرون بذلك. لأن ظلام الغي خالط قلوبهم، فجعلهم عديمي الشعور، فاقدى الحس.
وأتى بجملة «وما يخدعون إلا أنفسهم» ، بأسلوب القصر مع أن خداعهم للمؤمنين قد ينالهم بسببه ضرر، لأن أولئك المنافقين سيصيبهم عذاب شديد بسبب ذلك، أما المؤمنون فحتى لو نالهم ضرر فلهم عند الله ثوابه.
ونفى عنهم الشعور مع سلامة مشاعرهم، لأنهم لم ينتفعوا من نعمتها، ولم يستعملوها فيما خلقت له، فكانوا كالفاقدين لها.
ثم بين- سبحانه- العلة في خداعهم لله وللمؤمنين فقال: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ.
والمرض: العلة في البدن ونقيضه الصحة، وقد يستعمل على وجه الاستعارة فيما يعرض للمرء فيخل بكمال نفسه، كسوء العقيدة والحسد، والبغضاء والنفاق، وهو المراد هنا.
وسمى ما هم فيه من نفاق وكفر مرضا، لكونه مانعا لهم من إدراك الفضائل. كما أن مرض الأبدان يمنعها من التصرف الكامل.
وجعل القرآن قلوبهم ظرفا للمرض، للإشعار بأنه تمكن منها تمكنا شديدا كما يتمكن الظرف من المظروف فيه.