ثم بين- سبحانه- بعد ذلك جانبا من صفات جبريل- عليه السلام- الذي ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى.
أى: علّم النبىّ صلى الله عليه وسلم القرآن، ملك من ملائكتنا الكرام، وهو جبريل- عليه السلام- الذي أعطيناه قوة شديدة، استطاع بها أن ينفذ ما كلفناه بتنفيذه.
والضمير المنصوب في «علمه» هو المفعول الأول، والثاني محذوف. أى: القرآن، لأن علّم تتعدى إلى مفعولين.
وقوله: شَدِيدُ الْقُوى صفة لموصوف محذوف. أى: ملك شديد القوى.
قالوا: وقد بلغ من شدة قوته، أنه اقتلع قرى قوم لوط- عليه السلام- ثم رفعها إلى السماء، ثم قلبها. بأن جعل أعلاها أسفلها ...
وقوله- تعالى-: ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى صفة أخرى من صفات جبريل- عليه السلام-. والمرة- بكسر الميم- تطلق على قوة الذات، وحصافة العقل ورجاحته، مأخوذ من أمررت الحبل، إذا أحكمت فتله..
وشبيه بهاتين الآيتين قوله- تعالى-: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ....
وقوله: فَاسْتَوى أى: فاستقام على صورة ذاته الحقيقية، دون الصورة الآدمية التي كان ينزل بها على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أى: وهو- أى جبريل- بالجهة العليا من السماء المقابلة للناظر إليها ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى أى: ثم قرب جبريل- عليه السلام- من النبي صلى الله عليه وسلم فَتَدَلَّى أى: فانخفض من أعلى إلى أسفل ...
وأصل التدلي: أن ينزل الشيء من طبقته إلى ما تحتها، حتى لكأنه معلق في الهواء، ومنه قولهم: تدلت الثمرة إذا صارت معلقة في الهواء من أعلى إلى أسفل..
ثم صور- سبحانه- شدة قرب جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى والقاب: المقدار المعين: وقيل: هو ما بين وتر القوس ومقبضها..
والقوس: آلة معروفة عند العرب، يشد بها وتر من جلد، وتستعمل في الرمي بالسهام.
وكان من عادة العرب في الجاهلية، أنهم إذا تحالفوا، يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى، فيكون قاب إحداهما ملاصقا للآخر، حتى لكأنهما قاب واحد، ثم ينزعونهما معا ويرمون بهما سهما واحدا، فيكون ذلك دليلا على التحالف التام والرضا الكامل ...