ثم بين- سبحانه- الأسباب التي أدت بهؤلاء الأشقياء إلى هذا المصير الأليم، فقال- تعالى- إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ أى: إنهم كانوا قبل ذلك العذاب الذي حل بهم، أى: كانوا في الدنيا مُتْرَفِينَ أى: متنعمين بطرين، متبعين لهوى أنفسهم، وسالكين خطوات الشيطان. دون أن يصدهم عن ذلك صاد، أو يردعهم رادع.
فالمراد بالترف هنا: بطر النعمة، وعدم شكر الله- تعالى- عليها، والمترف: هو الذي يتقلب في نعم الله- تعالى-، ولكنه يستعملها في المعاصي لا في الطاعات، وفي الشرور لا في الخيرات.
وقوله- سبحانه-: وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ بيان لسبب آخر من الأسباب التي أدت بهم إلى هذا المصير السيئ.
والحنث: الذنب الكبير، والمعصية الشديدة، ويندرج تحته الإشراك بالله- تعالى-، وإنكار البعث والجزاء، والحلف الكاذب مع تعمد ذلك.
أى: وكانوا في الدنيا يصرون على ارتكاب الذنوب العظيمة، ويتعمدون إتيانها بدون تحرج أو تردد، ومن مظاهر ذلك أنهم أقسموا بالأيمان المغلظة أنه لا بعث ولا حساب، ولا جزاء، كما قال- تعالى-: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ... «١» .
ثم حكى- سبحانه- لونا من أقوالهم الباطلة، وحججهم الداحضة فقال: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ.
أى: أنهم فوق ترفهم وإصرارهم على ارتكاب الآثام كانوا يقولون- على سبيل الإنكار- لمن نصحهم باتباع الحق: أإذا متنا، وانتهت حياتنا ووضعنا في القبور، وصرنا ترابا وعظاما، أإنا لمبعوثون ومعادون إلى الحياة مرة أخرى؟ وهل آباؤنا الأولون الذين صاروا من قبلنا عظاما ورفاتا يبعثون- أيضا-؟.
ولا شك أن قولهم هذا دليل على انطماس بصائرهم، وعلى شدة غفلتهم عن آثار قدرة الله- تعالى- التي لا يعجزها شيء، والتي من آثارها إيجادهم من العدم.
ولذا لقن الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم الجواب الذي يخرس ألسنتهم فقال- سبحانه-: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- إن الأمم السابقة التي من جملتها آباؤكم. والأمم