ثم عجّب الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم من حال قوم يؤثرون الغي على الرشد، وينصحون فلا يستجيبون للنصيحة، وينهون عن الشرور فيأبون إلا الانغماس فيها، فقال- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ، وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ.
قال الآلوسى: قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون دون المؤمنين، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم، يوهمونهم عند أقاربهم أنهم أصابهم شر، فلما كثر ذلك منهم. شكا المؤمنون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن التناجي دون المؤمنين، فعادوا لمثل فعلهم.
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والهمزة للتعجب من حالهم، وصيغة المضارع للدلالة على تكرار فعلهم، وتجدده، واستحضار صورته الغريبة «١» .
والمعنى: إن شئت أن تعجب- أيها الرسول الكريم- فاعجب من حال هؤلاء اليهود والمنافقين الذين نهيتهم أنت عن التناجي فيما بينهم، بما يقلق المؤمنين ويغيظهم ... ولكنهم لم يستجيبوا لنصحك ونهيك، بل استمروا على تناجيهم بما هو إثم وعدوان ومعصية لك، ولما جئتهم به من عند الله- تعالى-.
وعبر بقوله- تعالى-: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ للإشعار بأنهم قوم لا تؤثر فيهم النصائح وإنما هم يستمعون إليها، ثم يهجرون العمل بها. ويعودون إلى فجورهم وفسقهم.
ووصف تناجيهم بأنه كان مشتملا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول، لا على الإثم فقط أو على العدوان فقط.. لبيان أن تناجيهم مشتمل على كل أنواع السوء والفحشاء، فهم يتناجون بكلام هو إثم وشر في ذاته، وبأقوال مشتملة على ظلم المؤمنين والاعتداء على دينهم وعلى أعراضهم، وبأفعال هي معصية للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم لم يستجيبوا لنهيه إياهم عن المناجاة بما يؤذى المؤمنين ويحزنهم.. بل استمروا في طغيانهم يعمهون.
والباء في قوله: بِالْإِثْمِ للملابسة، أى يتناجون متلبسين بالإثم وبالعدوان وبمعصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المنافقين ومن لف لفهم من اليهود، لم يكتفوا بتلك المناجاة القبيحة التي كانوا يديرونها فيما بينهم، لإغاظة المؤمنين، بل أضافوا إلى ذلك النطق أمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالكلام السيئ وبالعبارات التي تدل على سوء طويتهم، فقال- تعالى-: