للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي هذه الآية الكريمة معجزة من نوع الإخبار بالغيب، إذ لم تقع المعارضة من أحد في أيام النبوة وفيما بعدها إلى هذا العصر.

قال صاحب الكشاف: (فإن قلت: من أين لك أنه إخبار بالغيب على ما هو عليه حتى يكون معجزة؟ قلت: لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه، إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال، لا سيما والطاعنون فيه أكثف عددا من الذابين عنه، فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيب على ما هو به، فكان معجزة) «١» .

وقال بعض العلماء: (هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدى الكافرين بالتنزيل الكريم) . وقد تحداهم الله في غير موضع منه فقال في سورة القصص:

قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وقال في سورة الإسراء: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً وقال في سورة يونس: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وكل هذه الآيات مكية.

ثم تحداهم أيضا في المدينة بهذه الآية وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ.. إلخ. فعجزوا عن آخرهم، وهم فرسان الكلام، وأرباب النظام، وقد خصوا من البلاغة والحكم ما لم يخص به غيرهم من الأمم، جعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة وفيهم غريزة وقوة. يأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى كل سبب، فيخطبون، ويمدحون، ويقدحون، ويتوسلون، ويتوصلون، ويرفعون، ويضعون، فيأتون بالسحر الحلال ... ومع هذا فلم يتصد لمعارضة القرآن منهم أحد، ولم ينهض- لمقدار سورة منه- ناهض من بلغائهم، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإفراط في المضارة والمضادة. وقد جرد لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم الحجة أولا، والسيف آخرا فلم يعارضوا إلا السيف وحده، وما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أنهم أعجز من المعارضة، وبذلك يظهر أن في قوله- تعالى- وَلَنْ تَفْعَلُوا معجزة أخرى، فإنهم ما فعلوا، وما قدروا....

وحيث عجز عرب ذلك العصر فما سواهم أعجز في هذا الأمر.... فدل على أن القرآن ليس من كلام البشر، بل هو كلام خالق القوى والقدر أنزله تصديقا لرسوله، وتحقيقا لمقوله «٢» ...

وبعد أن ذكر القرآن الكفار ومآلهم، عطف على ذلك ذكر المؤمنين وما يفوزون به من نعيم


(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ١٠٢.
(٢) تفسير القاسمى ج ٢ ص ٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>